موسوعة دراسات وأبحاث من الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح

موسوعة دراسات وأبحاث من الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح (https://www.1enc.net/vb/index.php)
-   دراسات وبحوث وتحليل المنتدى ـ الإدارة العلمية والبحوث Studies and Research and Analysis Forum (https://www.1enc.net/vb/forumdisplay.php?f=101)
-   -   الجـنّ (https://www.1enc.net/vb/showthread.php?t=41005)

أبو خالد 12 Apr 2018 12:30 PM

الجـنّ
 

هم خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله تعالى، خَلَقهم سبحانه لعبادته كالإنس، قال تعالى: [الذّاريَات: 56] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} ، وهم يوافقون البشر بأوصاف، ويفارقونهم بأوصاف (2) .
أما موافقتهم للإنس فبأنهم:
1- مكلفون بالتكاليف الشرعية.
2- يسكنون هذه الأرض.
3- يأكلون ويشربون.
4- يتناكحون ولهم ذرية.
5- يُنسَبون إلى أقوامٍ وعشائرَ وقرابات.
6- ينتسبون إلى أديان مختلفة، فمنهم المؤمنون [وهم درجات في الصلاح] ، ومنهم الكافرون.
7- ... لهم أوصاف مشتقة من أحوالهم، فكما يقال للإنسي: شيطان لكثرة شقوته وإضلاله لبني جنسه، يقال للجني كذلك، وكما يقال طُفَيْلِيٌّ للإنسان إذا كَثُر اعتمادُه على غيره، يقال للجني إذا اتصف بذلك: تابع، وهكذا ... ومن أوصافهم المشتهرة العِفْريت: وهو القوي الداهية، والخابل وهو الذي يتسبب بالجنون لإنسي، والغُول وهو الذي يَكْثُر تشكُّلُه بصور كثيرة، ليُفْزِع الناس، والزَّوْبعة، وهو من أكثر الجن شوكة وقوة، ومنهم الغوّاص وهو من له قدرة فائقة على الغوص لاستخراج مكنونات البحار من حُلِيٍّ وغيرها، ومن ذلك أيضًا: البنّاء، وهو: من يتصف بالمهارة النادرة في فن البناء. والله أعلم.
8- ... ينتسبون إلى أوطانٍ، منها: الجزيرة (3) ، ومن مدنها:


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في هذا المبحث كتاب: عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة. د. عبد الكريم عبيدات، الباب الأول من ص (3) إلى ص (76) .
(2) ستأتي - إن شاء الله - أدلة هذه الأوصاف بعد تمام ذكرها.
(3) هي: جزيرة أَقُور، وهي تقع بين دِجْلة والفُرات، مجاورة للشام، وسميت بالجزيرة لكونها بين دجلة والفرات، ومن أمهات مدنها حَرّان والرُّها والرقة ونصيبين. انظر: معجم البلدان للحَمَوي (2/156) . والمقصود بالجزيرة - حاليًا -: هي المنطقة الواقعة بين نهرَيْ دجلة والفرات، ويُطلق عليها أيضًا الجزيرة الفراتية ونصيبين من مدنها، وهي مدينة تركية عامرة الآن، وتقع شمال شرق سورية مباشرة، وجنوب غرب تركيا.



نَصِيبين، وفيها جن هم نِعْمَ الْجِنُّ (1) ، وهم سادات الجن، ومن أوطانهم أيضاً نِينَوَى (2) ، وهكذا.
وأما مخالفتهم للإنس فبأمور منها:
1- ... أن أصل خِلْقتهم من خالص اللهب.
2- ... أنهم يتميزون بقدرات فائقة، منها: سرعة الحركة في التنقل، والقدرة الهائلة على إنجاز الأعمال الشاقة، والقدرة على التشكل بصورة ذي روح كإنسان أو حيوان، علماً أن الصورة التي يتشكّلون بها تصير حاكمة عليهم، فلو فُرِض تشكُّلُهم بصورة إنسي ثم طُعِن هذا الإنسي بخنجر مثلاً، فإن الجني يموت بسبب ذلك، بخلاف تشكُّل الملائكة عليهم السلام، فإن الصورة لا تحكم عليهم (3) ، وهم باقون على عظم خِلْقتهم وقوتهم كما قبل التشكل.
3- ... أنهم ثلاثة أصناف:
- صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء.
- وصنف متشكلين بحيات وكلاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) كما وصفهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه البخاري؛ كتاب: مناقب الأنصار، باب: ذِكر الجن، برقم (3860) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم - بنحوه -؛ كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءةِ على الجن، برقم (450) ، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) وهي قرية الرسول يونس بن متى عليه السلام، بالموصل. انظر: معجم البلدان (5/391) .
(3) ودليل حكم الصورة على الجن عند تشكلهم على صورة ذي روح، قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» أخرجه مسلم، برقم (2236) ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأما دليل عدم حكم الصورة على الملائكة _ت، قوله تعالى حكاية عن ضيف إبراهيم ولوط _ث: [هُود: 81] {قَالُوا يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ... } .



- وصنف يحلُّون ويظعنون، يصعدون وينزلون حيث يشاؤون.
4- ... أنهم لا تمكن رؤيتهم على صورتهم الحقيقية.
5- ... أنهم لم ينبّأ منهم أحد، ولم يكن منهم رسول، فأنبياء البشر ورسلهم عليهم السلام، هم أنبياء ورسل للجن كذلك.
6- ... أن من طعامهم اللحم الذي يجدونه عند العظم، وأن علف داوبهم يجدونه عند الروث، يحل لهم ذلك كلُّه إذا ذكروا اسم الله عليه.
7- ... يسكن الشياطين منهم - والعياذ بالله - في الأماكن المهجورة والحُشُوش (1) ، ويسكنون الأسواق لكثرة ما يكون فيها من التبرج، والغش، والأَيْمان الكاذبة، عياذاً بالله تعالى.
* وهاك - أخي القارئ - أدلةً على مجمل ما سبق ذكره من صفات الجن ما وافق منها صفاتِ الإنس وما خالف، مرتبةً بحسب إيرادها السابق إن شاء الله:
1- ... هم مكلفون - كالبشر - مأمورون بأداء الطاعات منهيون عن مقارفة المعاصي، وأدلة ذلك عديدة، منها قوله تعالى: [الذّاريَات: 56] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} ، وقوله سبحانه - حكايةً عن نفر منهم أنصتوا لتلاوة مباركة من النبي صلى الله عليه وسلم -: [الأحقاف: 31] {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *} ، قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - في تفسيره للآية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
(1) الحُشوش، ومفرده حَش أو حُشٌّ وهو: البستان من نخيل متكاثف بعضه على بعض، وكذلك يطلق على المَخْرج (مكان قضاء الحاجة) ؛ لأنهم كانوا يُبعِدون إليه، يقضون عنده الحاجة. انظر: مختار الصحاح مادة (حَشَشَ) .



الكريمة: (في هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكمُ الإنس في الثواب والعقاب والتعبُّد بالأوامر والنواهي) . اهـ (1) .
مسألة:
هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا؟
ولا يَرِد على ما سبق الاحتجاجُ بمعنى قوله تعالى: [الأنعَام: 130] {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} . فإن ظاهر معنى الآية أفاد أن لهم رسلاً من جنسهم، كما أن للإنس رسلاً من جنسهم. لكن الراجح في ذلك عند أهل العلم أنه لم ينبأ منهم أحد ولم يكن منهم رسول، وقد استدلوا على ذلك بأدلة عديدة، منها:
قول الله تعالى: [يُوسُف: 109] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... } .
وقوله تعالى: [الفُرقان: 20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} ، وقوله عزّ وجلّ: [العَنكبوت: 27] {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . وفيه تصريح بأن كل نبي بعثه الله بعد إبراهيم عليه السلام فهو من ذريته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ (2) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني (5/26) .
(2) محل استدلالٍ من حديث أخرجه البخاري؛ كتاب: الجهاد والسِّيَر، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم - بلفظه -؛ في استهلال كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، برقم (523) ، عنه أيضًا.



ومعلوم - ولا ريب - أن الجن هم من بعض الخَلْق المكلّفين، فيدخلون في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أفاد الحديث أيضًا أنه ليس لأحد من إنس أو جن أو غيرهم ادعاء نبوة - أو رسالة من باب أولى - بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهاك ثلاثة وجوه يرجح بها قول القائلين باختصاص الرسالة ببني آدم دون الجن:
الأول: ... كثرة الأدلة - وقد أوردت بعضها - ومن صريح ما استدلوا به قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... } [يُوسُف: 109] ، قال القرطبي رحمه الله: أي أرسلنا رجالاً ليس فيهم امرأة ولا جني ولا مَلَك (1) . اهـ.
الثاني: ... أن المراد بقوله تعالى -، أي: من أحدكم (2) وقد بينه الإمام الشوكاني رحمه الله بقوله: هو من مجموع الجنسين، وصَدَقَ على أحدهما، وهم الإنس، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} [الرحمن: 22] ، والمراد: من أحدهما. اهـ (3) .
الثالث: ... تضمُّن القرآن الكريم خطاباً للجن وتحدياً لهم وإعلاماً بمآلهم في الآخرة، وتوعُّداً لهم، فأما إفرادهم بالخطاب ففي قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِْنْسِ} [الأنعام: 128] ، وأما اقتران الخطاب بالإنس ففي قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (9/272) .
(2) المرجع السابق (7/87) .
(3) انظر: فتح القدير للإمام الشوكاني (5/26) .



تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33] ، وهو من التحدي لهم، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء: 88] . ومن الإعلام بمصيرهم في الآخرة قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ *وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [الأحقاف: 18-19] ، ومن توعّده لهم قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ *} [الرحمن: 31] . وقوله: {وَمِنَ ... } [سبأ: 12] .
وخلاصة ما ذُكر آنفًا - في تقرير أن الجن مخاطبون بالتكليف من قِبَل رسل الإنس - هو ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله بقوله: (إن سورة الرحمن والأحقاف وقل أوحي - أي سورة الجن -، دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون، معاقبون كالإنس سواء بسواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك)) . اهـ (1) .
ووجه الاستدلال في ذلك: أن خطاب القرآن المتوجه إلى الجن دال على أن من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم هو مرسل إلى الجن كما إلى الإنس، وإلا فكيف يفردون بالخطاب ثم يتوعدون بالعذاب، ويتم تحديهم بكتابٍ، هو في الأصل منزل على رسول خاص بالإنس، فلو حصل ذلك لكان لهم عندها أن يحتجوا بقولهم: لا شأن لنا بذلك كله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تفسير القرطبي: (17/170) .



فالقرآن إنما أنزل على رسول خاص بالإنس، ولمّا لم يفعلوا، دل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل لعموم الإنس والجن، والله أعلم.
2- ... أما سكناهم لهذه الأرض فدليله قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ *} [الرحمن: 10] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأنام: الناس، وقال الحسن البصري رحمه الله: الأنامُ الجنُّ والإنس (1) .
- ... وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فِي الْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا ... (2) .
3- ... وأما كونهم يأكلون ويشربون. فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ (3) .
4- ... ودليل كونهم يتناكحون ويتناسلون ولهم ذرية قولُ الله تعالى - محذِّراً من اتباع إبليس وذريته عياذاً بالله منهم -: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، يقول: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (4) . (والخُبُث جمع خبيث،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
(1) انظر كذلك تفسير القرطبي: (17/154) .
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم؛ كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها، برقم (2236) ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم؛ كتاب الأشربة باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2020) ، عن عبد الله بن عمر رضي لله عنهما.
(4) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب الوضوء، باب: ما يقول عند الخلاء، برقم (142) ، ومسلم؛ كتاب: الحيض. باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم (375) . وضبط «الْخُبُثِ» ، بإسكان الباء، عند مسلم.



والخبائث جمع خبيثة، يريد: ذُكْرانَ الشياطين وإناثهم) (1) . ومعلوم أن وجود الذكران والإناث مقتضٍ لحصول الجماع والتوالد، والله أعلم.
5- وأما انتسابهم إلى أقوام وعشائر، فلقول الله تعالى - حكاية عن نفرٍ من الجن استمعوا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم -: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: «إِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ (2) - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَاماً» (3) .
6- ... وأما انتسابهم إلى أديان مختلفة، وكونهم طرائق عديدة من حيث الصلاح والفساد، فلقول الله تعالى - حكاية عن بعض الجن (4) -: [الجنّ: 11] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا *} .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (المعنى: لم يكن كل الجن كفاراً، بل كانوا مختلفين، منهم كفار، ومنهم مؤمنون صُلَحاء، ومنهم مؤمنون غير صُلحاء) (5) .
7- ... وأما أوصافهم التي اشتهروا بها فصارت كالأصناف لهم: فمنهم: الشياطين، ومنهم المردة - والعياذ بالله - قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) الكلام لابن حجر رحمه الله. انظر: فتح الباري (1/243) .
(2) (نِصِّيبينَ) ، أو (نَصِيبِينَ) بالتخفيف: (وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام) . انظر: معجم البلدان، لياقوت الحَمَوي: (5/233) .
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري؛ سبق تخريجه ص 12، بالهامش ذي الرقم (1) .
(4) وهم جن نصيبين، من ساكني جزيرة أقور، ونصيبين مدينة من أمهات مدن الجزيرة كما سبق بيانه ص11 بالهامش ذي الرقم (1) .
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (19/16) .




السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ *وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ *} [الصافات: 6-7] . والشيطان المارد، هو: (الخبيث المتمرد العاتي، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه) (1) .
ومن أصناف الشياطين أيضاً البناؤون والغوّاصون قال تعالى: {وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *} [ص: 37] . وقد سخّرهم الله تعالى لعبده ونبيّه سليمان عليه السلام وسلّطه عليهم فهم يأتمرون بأمره {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، [والمحراب مقدّم المجلس أو المصلّى أو البنيان، والتمثال صورة من نحاس أو زجاج، والجفان ج/جفنة وهي قدر متسع للطعام، بلغت من سعتها أن تكون كالجابية، أي: الحوض الذي يُجبى فيه الماء أي يجمع به، وقدور أخرى ثابتة لا تتحول من موضعها لِعِظَم حجمها] (2) .
ومن أصنافهم: العفاريت، قال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل: 39] ، والعِفْريت هو: (النافذ في الأمر المبالغ فيه مع خبث ودهاء) (3) .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْه فَذَعَتُّهُ ... الحديث (4) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: ص 1443، ط - بيت الأفكار الدولية.
(2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن. (تفسير الطبري) : (22/87) .
(3) انظر: لسان العرب لابن منظور: (4/585) .
(4) أخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: [ص: 35] {وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، برقم (4808) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلمٌ بلفظه، كتاب: المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم (541) عنه أيضاً. ومعنى: فَذَعَتُّهُ: خَنَقْتُهُ.



ومنها أيضاً النَّخَسَة الخُبَّل، وهم الذين ينخسون المولود عند ولادته، وقد يتخبط الإنسانَ هذا النوعُ إذا ضلّ عن سبيل الله تعالى، فيُصيِّره لا يعي ما يقوله، وهو المسمى بالمس أو الصرع، والصحيح ثبوت حصوله، كما سيأتي بيانُه تفصيلاً إن شاء الله.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] .
وقال صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ (1) .
ومن أصنافهم كذلك الغِيلان، ومفرده غُول، وهو الجني يتصور بصور عدة، ويتبدل باستمرار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ... فَإِذَا تَغَوّلَتْ بِكُمُ الْغِيلاَنُ فَبَادِرُوا بِالأَْذَانِ ... (2) .
وكذا منهم الزَّوْبَعة، وهم - كما سبق - من أقوى الجن شوكة. قال تعالى: [الأحقاف: 29] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *} ، (وفي سبب نزولها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري؛ كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: [مَريَم: 16] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } برقم (3431) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلمٌ بلفظه؛ كتاب: الفضائل. باب: فضائل عيسى عليه السلام، برقم (2366) ، عنه أيضاً. ... ومعنى: نَخَسه، أي: طعنه أو نزغه أو مسّه أو عصره أو لكزه أو ضربه على جنبه، كما يستفاد من مجموع روايات الحديث، والله أعلم.
(2) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد (3/382) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.




نَخْلَةَ، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا - قال: صَهْ -، وكانوا تسعةً أحدُهم زَوْبَعَةُ، فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ..} - الآية) (1) . [وقد آذنَتْه بهم - أي أعلمَتْه صلى الله عليه وسلم باستماعهم ووجودهم شجرةٌ] (2) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: هم من بني الشيِّصيان، وهم أكثر الجن عدداً وأقواهم شوكة وأشرفهم نسباً (3) . وقد تعددت الروايات في تحديد نسبة هؤلاء النفر وعددهم، فقيل هم تسعة من الشيِّصيان كما تقدم، أو سبعة من نِصِّيبين، أو من جن نينوى، أو من أهل حرّان، وأن الاستماع كان في صلاة الفجر أو في صلاة العِشاء الآخرة. وأياً كان الحال، فالعبرة في إذعانهم - مع عِظَم شوكتهم - لمواعظ القرآن، وقبولهم بأن يكونوا رسلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم، يدعونهم لإجابة داعي الله والإيمان به عليه الصلاة والسلام، بل إنهم قد دَعَوا بعض الإنس أيضاً للإسلام كما في حديث إسلام سواد بن قارب رضي الله عنه الطويل، وفيه أن داعي الجن أتاه ثلاث ليالٍ متواليات يدعوه في كل ليلة بقوله:
فانهضْ إلى الصَّفوة من بني هاشمٍ ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فأنشد سواد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم شعراً، ومنه:
وأنك أدنى المرسلين شفاعةً ... إلى الله يا ابنَ الأكرمينَ الأطايبِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم ص 1565 ط - بيت الأفكار الدولية.
(2) حديث الإيذان في صحيحي البخاري ومسلم، الأول برقم (3859) ، والثاني برقم (450) .
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن (19/2) .



فمُرْنا بما يأتيك يا خيرَ مُرْسَلٍ ... وإن كان فيما جاء شَيْبُ الذوائبِ
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمُغْنٍ عن سوادِ بن قاربِ

قال سواد رضي الله عنه: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ (1) .
8- ... وأما انتسابهم إلى أوطانٍ ومواضعَ من الأرض، فمن أدلته:
- ... قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: «إِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الْجِنُّ ... » (2) الحديث.
- ... وعند الإمام الشعبي رحمه الله: (إن الوفد الذي جاء ليلة استماع الجن القرآنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من جنّ الجزيرة) (3) .
(1) جزء من حديث إسلام سواد بن قاربٍ رضي الله عنه، وقد أخرجه البيهقي بطوله في دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: (2/248) ، كما أخرجه - باختلاف مختصراً - البخاريُّ في كتاب: مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، برقم (3866) ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولم يصرّح فيه باسم كاهن الجن في الجاهلية. ... - قال البيهقي رحمه الله: [حديث سواد بن قارب، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح] . اهـ. ... - وقال ابن كثير رحمه اللهفي تفسير القرآن العظيم (4/198) : وهذا الذي قاله البيهقي هو المُتَّجِه. اهـ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
(2) جزء من حديث تقدم تخريجه ص 12، بالهامش ذي الرقم (1) .
(3) سبق بيان معنى (الجزيرة) ، والقولُ ذكره الإمام مسلم؛ كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، برقم (450) . ولا تضادَّ بين كونهم من الجزيرة، أو من نصيبين، حيث إن نصيبين مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام. كما سبق ذكره.



- ... وذكر الإمام القرطبي رحمه الله أن الوفد كانوا من جن حرّان، ومن نصيبين، والذين أتَوْا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بنَخَلَةَ كانوا من جن نِينَوَى)) (1) .
* وأما أدلة مخالفتهم للإنس:
- ... ومن ذلك أن أصل خِلْقتهم من خالص حَرِّ النار، ولَهَبِها، فلقول الله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ *} [سورة الرحمن: 15] ، ولقوله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ *} [الحِجْر: 27] . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَّانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ (2) .
والمارج والسموم وَصْفان للنار، يعني الأولُ: لهب النار ولسانه، والثاني: خالص حرّ النار الذي ينفذ في المسام لشدته (3) .
- ... ومن ذلك تميزهم عن الإنس بقدرات متفوقة منها: سرعة الحركة، فلقوله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل: 39] . فقد تكفّل ذلك العِفْريت من الجن بإحضار عرش ملكة سبأ بلقيس، لسليمان عليه السلام، وذلك قبل قيامه عليه السلام من مجلسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (19/3) . ... وقد ذكر الإمام الألوسي في تفسيره (15/13) . أن وِفادات الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ست وِفادات. كما ذكرها مفصلةً الإمامُ البيهقي رحمه اللهفي دلائل النبوة (2/225) ، فانظرها - إن شئت -.
(2) أخرجه مسلم؛ كتاب: الزهد والرقائق باب: في أحاديث متفرقة، برقم (2996) ، عن عائشة رضي الله عنها.
(3) انظر: تفسير الطبري (27/126) . وانظر أيضاً: تفسير النَّسَفي (2/270) .




ومن قدراتهم المتفوقة - ولا ريب - قدرتهم على لمس السماء، قال تعالى حكاية عن مَرَدة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *} [الجن: 8] .
- ... ومن أدلة مخالفتهم الإنس في قدرتهم على التشكل بصورة ذي روح، فلقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الأنفال: 48] . وقد كان ذلك في مجيء إبليس - نعوذ بالله من الشيطان الرجيم - في صورة رجل من بني مُدْلج، وهو على هيئة سراقة بن مالك بن جعشم، فلما رأى جبريلَ عليه السلام أقبل مع جند من الملائكة نزع يده من يد رجل من المشركين، فقال الرجل: تزعم أنك جار لنا؟! فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (1) .
وأما دليل تشكُّلهم من السنة النبوية، فقد سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ فَذَعَتُّه، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهَ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَى تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: [ص: 35] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئاً (2) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
(1) انظر: تفسير الطبري (10/18) . وانظر المروي في دلائل البيهقي (2/354) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) سبق تخريجه ص 19 بالهامش ذي الرقم (4) .




ومن أدلته أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إذ وكّله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فكَذَبَه شيطانٌ ليلتين يحثو في كلّ ليلةٍ من تمر الصدقة، مدَّعياً فاقتَه وعياله زاعماً عدمَ عودته، ثم يعود، حتى جاء الثالثة، فعلّم أبا هريرة أن يقرأ آية الكرسي بتمامها فيكون بعدها في حفظ الله تعالى ولا يقربنَّه شيطان حتى يُصبِح، فقال عليه الصلاة والسلام: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعَلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ (1) .
- وأما تشكلهم على صورة ذي روح من الحيوان، فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: لاَ تَقتُلُوا الجِنَّانَ (2) ، إِلاّ كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسقِطُ الْوَلَدَ، وَيُذهِبُ الْبَصَرَ، فَاقْتُلُوهُ (3) ، [واستثناء هذين النوعين (الأبتر وذي الطُّفْيَتَيْن) (4) ، من حيات البيوت يقتضي: أن الجني يتمثل في حيات البيوت، إلا في هذين النوعين فلا يتصوّر بصورتهما، لذا فإنه يسنّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
(1) اختصار من معنى حديث أخرجه البخاري بطوله، في كتاب: الوكالة. باب: إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكِّل ... ، برقم (2311) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقد أفاد ابن حجر في الفتح (4/488) ، (أن زكاة رمضان كانت تمراً، وأن الشيطان المتشكل على صورة شيخ كبير، أتى من نصيبين) . اهـ.
(2) الجَِنَّان: الحيّات التي تكون في البيوت، كما أفادته زيادة مسلم رحمه الله، وفيها: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ ... » الحديث، وتخريجه في الهامش التالي.
(3) أخرجه البخاري؛ كتاب: بدء الخلق، باب: خير مال المسلم..، برقم (3311) ، عن أبي لبابة رضي الله عنه. ومسلم؛ كتاب: السلام، باب: قتل الحيّات وغيرها، برقم (2233) ، عنه أيضاً.
(4) هما نوعان لا نوع واحد كما يوهمه ظاهر مروي البخاري رحمه الله، فقد فرَّقت رواية مسلم بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَذَا الْطُّفْيَتَيْنِ وَالأَْبْتَرَ ... » الحديث. انظر صحيح مسلم برقم (2233) ، وقد نبَّه على ذلك الإمام ابن حجر في الفتح، كما سيأتي في الهامش الذي يلي.



قتلُهما مطلقاً] اهـ (1) . وهذا النهي عن قتل حيات البيوت مقيد بوجوب استئذانها ثلاثة أيام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنّاً قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئاً (2) ، فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ (3) .
- وأما اختلاف الجن وتبايُنهم من حيث الصورة وشكل الخِلْقة، فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: الْجِنُّ عَلَى ثَلاَثَةٍ: فَثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلاَبٌ، وَثُلُثٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ (4) .
- وأما كونهم لا تمكننا رؤيتهم على صورتهم الأصلية، فلقول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] . وهذه الآية دالّة - كما ذكر الإمام الشوكاني رحمه الله على عدم رؤيتنا لهم على صورتهم الأصلية، وليس معناها انتفاء رؤيتنا لهم في حالة تشكُّلهم بمختلف الصور التي ثبت تشكُّلُهم بها، لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) انظر: الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص: 22. والأبتر: جنس من الحيات أزرق اللون مقطوع الذنب أو قصيرُهُ، وذو الطفيتين: نوع آخر يميزه وجود خطين أبيضين على ظهره. كما أفاده في الفتح (6/347) .
(2) المعنى: إذا تمثلوا بصورة حية أو غيرها، كما أفاده سبب ورود الحديث.
(3) سبق ذكر جزء من هذا الحديث وتخريجه ص 17 بالهامش ذي الرقم (2) .
(4) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/455) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. اهـ. - أي البخاري ومسلم في صحيحيهما، مع كونه على شرطهما -. وقال الذهبي: هو صحيح. اهـ. كما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه. كما جاء بنحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي سنده ضعف. انظر الدَّمِيري، حياة الحيوان الكبرى (1/203) .
(5) انظر: فتح القدير الشوكاني رحمه الله، 2/197. وقال الإمام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (4/488) : إن قوله تعالى: ُ ق ف چ؛: 9 ژ؟ ِ [الأعرَاف: 27] {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} : هذا مخصوص بما إذا كان على صورته التي خُلِق عليها، وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور. اهـ. والشرط المذكور أي: شرط التشكُّل.




- وأما كون رسل البشر هم رسل للجن أيضًا، وأنه لم ينبأ من الجن أحد ولم يرسل إليهم، فقد سبق تفصيل ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا (1) وهو الذي عليه جمهور العلماء كما ذكره ابن قيم الجوزية رحمه الله بقوله: (ولما كان الإنس أكملَ من الجن وأتمَّ عقولاً ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أُخَر ليس شيء منها للجن، وهم: الرسل والأنبياء والمقرّبون، فليس في الجن صنف من هؤلاء، بل حِلْيتهم الصلاح) . اهـ (2) .
- وأما كون طعامهم أوفر اللحم يجدونه عند كل عظم، وكون طعام دوابهم عند كل بَعْرَةٍ أو رَوْثٍ، فدليله قوله صلى الله عليه وسلم - مخاطباً الجن - لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْماً، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لَدَوَابِّكُمْ (3) .
- وأما دليل وجود الشياطين منهم - والعياذ بالله - في أماكن قضاء الحاجة كالحشوش ونحوها، فلقوله عليه الصلاة والسلام: إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا أَتى أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (4) .
- وأما كثرة وجودهم - عياذاً بالله - في الأسواق، فلوصية سلمانَ رضي الله عنه، بقوله: ((لا تكونن، إن استطعتَ، أولَ من يدخل السوق ولا آخرَ من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها يَنْصِبُ رايته)) (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) انظر: ص14 وما بعدها.
(2) انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/415) .
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري بنحوه، كتاب: مناقب الأنصار، باب: ذِكْر الجن، برقم (3860) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلمٌ بلفظه؛ كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح، برقم (450) ، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) الحديث أخرجه أبوداود؛ كتاب الطهارة، باب: ما يقول إذا دخل الخلاء، برقم (6) ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
(5) أخرجه مسلم؛ كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، برقم (2451) ، عن سلمان رضي الله عنه.


الكتاب: التحصين من كيد الشياطين
دراسة تأصيليَّة مستفيضة لقضايا: (العين، والحسد، والسحر، والمسِّ وغيرها، مع بيان المشروع من التحصين، والرُّقي، وأصولِ التداوي)
المؤلف: د خالد بن عبد الرحمن بن علي الجريسي

ابن الورد 12 Apr 2018 04:57 PM

رد: الجـنّ
 
حياك الله تعالى مديرنا الحبيب الغالي أبوخالد
نشكر لكم مشاركاتكم المباركة
وجزاكم الله تعالى عن الجميع خير الجزاء

نور الشمس 13 Apr 2018 02:12 AM

رد: الجـنّ
 
جزاك الله خير ..

سلطانه 14 Apr 2018 03:24 AM

رد: الجـنّ
 
جزاك الله خير
وجعله في ميزان حسناتك

أبو خالد 15 Apr 2018 07:32 AM

رد: الجـنّ
 
شاكر مروركم جميعآ جزاكم الله خير


الساعة الآن 02:30 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي