عرض مشاركة واحدة
قديم 30 Apr 2013, 10:16 AM   #3
طالب علم
باحث علمي ـ جزاه الله خيرا


الصورة الرمزية طالب علم
طالب علم غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 2783
 تاريخ التسجيل :  May 2008
 أخر زيارة : 24 Apr 2024 (02:36 PM)
 المشاركات : 3,116 [ + ]
 التقييم :  11
لوني المفضل : Cadetblue
رد: الإسقاط النجمي وحكمه وعلاقتها بالروح .



الإنسان صانع الحضارة برقيه ترقى وتزدهر، وبتأخره تتأخر وتتدهور، والتحضر عمل شاق، يتطلب جهدًا خارقًا، تصميمًا قويًا، كما يتطلب توفر إمكانات، وله شروط ينبغي أن تكون مواتية، لذا لم يعرف العالم حضارة قامت بقرار سياسي، أو سقطت بقرار سياسي، بل لا بد من تجمع أسباب، وتوفر عزم وتصميم، وقد كرم الله تعالى أمتنا فجعلها شاهدة على الأمم، وجعل رسولنا عليه الصلاة والسلام شاهدًا على أمته، يقول الحق: (وفي هذا ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعمً النصير) ( الحج: 78).

يقول سيد قطب يرحمه الله 33: "فالرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على هذه الأمة، ويحدد منهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس، بموازين شريعتها وتربيتها، وفكرتها عن الكون والحياة، ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق، المتصل الوشائج، المختار من الله تعالى.

ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشر، طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع، في ذيل القافلة، ولا تزال كذلك حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله عز وجل.

وهذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد، ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله… بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصية على البشرية، التي اجتباها لها الله، وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات، التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض. والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها، بل يدعو إلى إعدادها، ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفذ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله، فيوجهوه به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء.. إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدمًا إلى الكمال المقرر لها في هذه الأرض، ولا تكتفي بأن تقودها اللذائذ والمتاع وحدهما، كما تقاد الأنعام.

إن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية، لكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى، وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة المستقيمة على منهج الله تعالى".

مستلزمات الشهادة:

إن هذه الشهادة شيء كبير، وشرف عظيم، لذا فهي تتطلب شروطًا لا تتحقق بالكسل أو التخلف.

فالشهادة والريادة، في عالم اليوم، تتطلب عقيدة سليمة، وثقافة حية، والتزامًا صارمًا بمنهج الله تعالى، لذا جاء الأمر في الآية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله. وقد ظلت أمتنا قرونًا كثيرة، تقوم بهذه الريادة والشهادة ثم بدأ "العد التنازلي"، فتركت القيادة لتصبح في ذيل القافلة.

إن الشهادة والريادة ليسا مما تورث، وقيادة العالم اليوم هي للغرب الصناعي، وعلى من يتطلع لدور حضاري أن يكون لديه شيء يقدمه، فإن كان حافيًا خليًا فمكانه في المؤخرة، وليس في القيادة، أو الريادة، وإذا كان بعض "الحالمين" يغالط نفسه بادعاء أن الله تعالى اختاره وفضله على كل البشر، وأنه يرث ذلك عن أجداده، فتلك أسطورة عفا عليها الزمن، وتنكرها سائر الأمم.

ونحن - بحمد الله - لا نعيش على أوهام أو أساطير، ونحن نقرأ صباح مساء قول الحق: (وأن ليسَ للإنسان إلا ما سعى، وأنَّ سعيهُ سوفَ يُرى، ثُمَّ يجزاه الجزاءَ الأوفى)

(النجم: 39 - 41).

إن الغرب يمسك بقيادة العالم فكريًا وسياسيًا وصناعيًا وإعلاميًا، ولن نستطيع مزاحمته في أكثر هذه الميادين، لكننا نملك عقيدة وفكرًا، لا يملكها الغرب، ونملك آخر الأديان السماوية ولدينا كتاب رباني هو آخر الكتب السماوية، وقد تعهد الله بحفظه، ولدينا سنة تردفه، وتبين ما في هذا الكتاب، فإذا التزمنا شريعة الله، وأحسنا عرضها، وصدقنا في التطبيق، فبإمكاننا أن نقدم للعالم شيئًا يحتاجه، لكننا لا نغالط أنفسنا، ولا نعيش على وهم كاذب، بأن تكون لنا صناعة، في القريب العاجل ، أفضل من صناعة الغرب، ولا زراعة أفضل مما لدى الغرب ولا إعلام…إلخ.

بضاعتنا الوحيدة بضاعة ربانية، تكفل السعادة للإنسان في دنياه وآخرته، جربناها قرونًا، ونعمل جاهدين للعودة إليها بصدق وإخلاص موضوعية، وأملنا أن يمدنا الله بقوته، ويسدد خطانا، وسندنا في ذلك قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).

إن شهادتنا على العالم شهادة علم ومعرفة وهداية، وحين سقطنا في الجهل ذهبت أهلية تلك الشهادة، بل صرنا مشهودًا علينا، وإن صارت شهادة "زور" ، وعوملنا - وما نزال - أسوأ معاملة. كل حسن لدينا فهو مأخوذ من (الغير)، وكل قبيح يشنع به علينا.

القنابل تنفجر، والسيارات المفخخة تنفجر في إيرلندا أسبوعيًا، ومنذ نصف قرن تقريبًا، لكن لا أحد يقول هذا إرهاب كاثوليكي أو بروتستانتي.. فإذا استعمل السلاح فرد مسلم غير منضبط، صرخ الإعلام: إرهابي مسلم، وإذا قام طبيب يستعمل سلاحًا حكوميًا، ورش الناس وهم يصلون في الخليل، وهم في حالة سجود يقال لنا هذا رجل "مختل"‍‍!

لقد صار الإرهاب حكرًا على المسلم، في الإعلام الغربي، وحيثما أطلقت رصاصة، يسند الفعل لمسلم، قبل أن يعرف الفاعل، إنها شهادة مزورة تتعالى منها رائحة العنصرية النتنة!

إن الشهادة على الناس في حقيقتها، إظهار للحق، وتبيينه وتبليغه للناس(34). وطبيعي أن تقوم على معرفة الحق، الذي يراد بيانه وتبليغه، ومعرفة الحق "العلم"، وإذن فينبغي أن تكون الشهادة قائمة في أصلها وأساسها على "العلم"، فشهادة العلم هي الشهادة المطلوبة.. وبهذه المناسبة أجد من المفيد أن أستطرد، بهدف إيضاح قضية، قد يكون فيها نوع من الغموض، فالعلم متى كان وصفًا موضوعيًا، وجوابًا عن "كيف"، فلا اعتراض، ولكن الاعتراض على فلسفة العلم فقط، وهذا يشاركهم فيه بعض علماء الغرب مثل "يهوم ومل".

يقول د. الموصلي(35): "من الواضح أن الأصوليين لا يرفضون العلوم بحد ذاتها، بل فلسفتها، فالعلوم عندهم وسيلة وأداة، وهذا مشابه لما دعا إليه "ستيورت مل" في قوله: إن العلم هو وصف وظائفي لحقائق ناتجة عن الملاحة والتجربة.

فآراء الأصوليين كآراء (مل وهيوم) وهي ضد هذا التنظير الفكري، لأنها تشك في قدرة الإنسان على التوصل للحقيقية، سواء أكان ذلك عن طريق الفلسفة أم العلوم، أم فلسفة العلوم".

إن فلسفة العلوم قد تحولت إلى دين، لكنه ليس دينًا جديدًا فقط، بل فوق الأديان كلها.

وصار البعض يعتقد أن العلم قد اكتشف أسرار الكون، وهو قادر على حل كل المشاكل، وكل قضية لا يحلها العلم، فهي مشكلة "ميتافيزيقية" زائفة، وهنا مكمن الخطر، ومن هنا يأتي الاعتراض على "كهنة العلم".

شهادة المعرفة:

إن الشهادة تتطلب معرفة، ولا تقبل شهادة من غير معرفة، وإذا شك الشاهد في شهادته سقطت، فكيف إذا لم يكن له علم ولا معرفة؟!

ولكن السؤال: هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى، فما المقصود بالمعرفة هنا؟

"تعنى شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أن تكون هذه الأمة قائمة في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق، وتأسيس الحياة عليها، بعيدًا عن كل منزع خرافي أو وهمي أو أسطوري، في تصور "الوجود والحياة"، وذلك ما يفسر تلك الدعوة الدؤوب إلى العلم، التي جاءت مبثوثة في تعاليم الدين، بشكل لا يوجد له نظير في أي دين آخر، حتى جاءت قيمة العلم في المذهبية الإسلامية، تتبوأ الدرجة الأولى في سلم القيم، وتنبني عليها كل القيم الأخرى" (36).

واستذكر ما سبق نقله عن حجة الإسلام الغزالي، بأن ثمة تلازمًا قويًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فمن تعلم علمًا واحدًا فلا يكفي. من تعلم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة، ومن تعلم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصًا.. وإذن فلا بد من العلمين معًا.

كما لا بد أن يكون العلم شاملاً كي تصل الأمة الإسلامية إلى موقع تشع فيه على البشرية الخير، وهنا لا بد من معرفة جيدة بالتحضر، والكيفية المناسبة له، وهذا يتطلب معرفة جيدة بالدين، والكون والبشر، وبدون هذه المعرفة الشاملة ستتعذر الشهادة، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولن يجني من الشوك العنب.

2- المعرفة بالدين:

منطلق المسلم دينه، فمعرفته جيدة سليمة، تسهل الانطلاق.. والإسلام دين سهل، يخلو من التعقيد، ولذا كان الصحابي يدركه بيسر وسهولة، كما يدرك أهدافه وأبعاده.

لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه لليمن لجمع الزكاة، فطلب إلى أهل اليمن أن يعطوه قماشًا بدلاً من الزكاة العينية، وعلل ذلك بقوله (37): "إنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة".. وحين فتحت العراق على عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، رفض توزيع الأرض على المجاهدين، وبقي ستة أشهر يناقش كبار الصحابة، وكانت حجته أنه يريدها موردًا لبيت المال أولاً، وكي لا يتحول المجاهدون إلى مزارعين، ويتركوا الجهاد.

وروي أن على بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: "غيّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" فقال: إنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك والدين قُلّ - أي المسلمون قلة - فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه، فأمرؤ وما اختار (38).. والشواهد كثيرة.

إن الإسلام نصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والأخذ منها مباشرة سهل ميسور، متى علم الإنسان العربية، مفردات ودلالات وعلم أسباب النزول وكليات الشريعة.

إذن ليس المقصود بالعلم بالدين، العلم المتخصص، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة، ولكن المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة، تشتمل على أصول العقيدة، ومتطلبات العبادة الصحيحة، والأخلاق الإسلامية، بعيدًا عن التأويلات الباطنية، والتي ترفضها اللغة.

وأيضًا فليس المطلوب علمًا نظريًا، لا يكون له في السلوك نصيب، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر، واستذكر هنا أن اليابان حين عزمت على النهوض، توجهت إلى الصناعة وعلومها، ولم تتوجه للدراسات النظرية، وما زال هذا التوجه حتى اليوم، وكافة البعثات التي أرسلتها إلى الغرب، لم تجعل من أهدافها دراسة الفلسفة أو علم الاجتماع أو القانون، على حين كان العربي المبتعث يغلب على دراسته العلوم النظرية والآداب والقانون، ولم يعدَّل التوجه إلا خيرًا.

وحين انشغل المسلمون بالفلسفة وعلم الكلام، واشتغل الفقهاء بالفقه الافتراضي، صار العلم يعالج قضايا لا وجود لها في المجتمع على حساب قضايا موجودة، لا تجد من يعالجها.. والذين هاجموا علم الكلام، من علماء الأمة، كانوا يرون فيه (ترفًا فكريًاً) يخترع المتكلم مشكلة، أو يطرح إشكالاً، ثم يحاول حله، وقد يفلح أو لا يفلح.. من هنا رأينا عالمًا مثل الشاطبي، كان همه الأول التعرف والتعريف بمقاصد الشريعة، يقول (39): "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعًا".

والعلم حين يشيع في الأمة، يتنافس في الحصول عليه الكل، وبهذا نفسر انتشار المدارس والكتب في العالم الإسلامي، حتى قال "ديورنت" في كتابه الرائع "قصة الحضارة": إن مكتبة الصاحب ابن عباد الشخصية، كانت تحوي من الكتب أكثر مما تحويه كافة المكتبات العامة في أوروبا كلها.

كذلك فإن الإسلام انتشر في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا عن طريق التجار، الذين لفتوا الانتباه بجودة سلوكهم، فكانوا دعاة للإسلام بالفعل لا بالقول، واليوم يسجل الطلبة المبتعثون، والدارسون في الغرب، نجاحًا في الدعوة رغم قلة العلم، ولكن حسن السلوك هو "الجاذب" الأكبر.

من السهل أن يكون الإنسان "منظرً"، ولكن الأنفع أن تكون حياته وسلوكه صورة لما يؤمن به، ويدعو له.

إن الإسلام يواجه اليوم أكبر حملة إعلامية ظالمة ضده، ومع ذلك فهو يسجل الانتصار بعد الانتصار، وإذا كان البعض يكسب بعض الفقراء لتقديمه المال والطعام، فالإسلام يكسب من رجال الفكر والعلم.. والغريب أن أكبر حملة ضده في الغرب تتركز حول المرأة، ثم نجد الإسلام ينتصر وينتصر في صفوف النساء.. إنه دين يشق الطريق بقوته وليس بفضل الأموال التي تنفق، ولا الكنائس الفخمة التي تشاد، ثم لا تجد من يزورها.. وقد صدق من قال: النصرانية دعوة بلا دين، والإسلام دين بلا دعوة.

إن العالم الإسلامي يشهد صحوة لم يعرفها منذ زمن بعيد، ومعرفة المسلم بدينه تزداد يوميًا، والالتزام به يكبر يوميًا، رضي الأعداء أم سخطوا، اتهموا المسلمين بالإرهاب أم لم يتهموا، فقد وعد الله تعالى بنصر دينه حيث قال: (سَنُريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكفِ بربكَ أنه على كل شيء شهيد) (فصلت: 53).

3- المعرفة بالكون:

سبق في بداية هذا الكتاب، أن تحدثت عن الكون، وموقف المسلم منه، وأريد هنا التركيز على الجانب المعرفي للكون، فهو كتاب مفتوح، وأثر عظيم من آثار الله تعالى المنظورة والمحسوسة.. أما الوحي فهو الكتاب المقروء والمعجز، ولذا فلدينا كتابان: منظور مشاهد، ومتلو مبارك.

والدارس لكتاب الله يكسب العلم بالدين، والمتأمل في الكون يتحصل على علم عظيم، فدقة صنع الكون وعظمته، تدل على عظمة خالقه، وهو من آيات "الآفاق"، ودراسته ومعرفة السنن التي تضبط حركته توصل إلى الإيمان العميق بالله، وعظيم قدرته.

إن الكون توصل إلى الإيمان وسخره للإنسان، قال تعالى: (ألم ترواْ أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة) (لقمان: 20).

وهذا التسخير كي يكون على الوجه الأكمل، فلا بد من معرفة جيدة بالكون وسننه، والقوانين التي تضبطه، لينتقل الإنسان من العلم بأوجه التطبيق والترابط، إلى النواميس التي تحكم الكون، كي يستثمره الاستثمار الأفضل والأنفع، وكي تتقى المضار والأخطار والكوارث الطبيعية، وكذلك تنمية الثروات الكونية على الأرض والبحار والجو، وإيقاف الاستنزاف لتلك الثروات.

إن الغرب يقف من الكون موقفًا معاديًا، وعبارة قهر الطبيعة تتردد كثيرًا، وكذلك فإن الاحترام للصناعة وأهلها، وكل ما هو غير صناعي فلا يستحق الاحترام، وقد تقدم هذا في بحث الكون، وما قاله عالم الاجتماع أريك فروم.

ولعل من الثمار المرة لهذه النظرة تلوث البيئة، وحصول ثقب الأوزون، وارتفاع حرارة الأرض والمحيطات، وربما سنكتشف أن رش المبيدات هو المسبب للكثير من أمراض السرطان، وربما كان للتفجيرات النووية وأمثالها، التأثير الكبير على ثوران البراكين، أو كثرة الزلازل.

إن الإنسان في الغرب يلوث البيئة، ويستهلك خيراتها، بأضعاف ما يفعله الإنسان في الهند مثلاً.

وقد وجدت الشيخ سعيد النورسي يرحمه الله، يتحدث عن الطبيعة، فيصفها بأوصاف جميلة، حتى كأنه شاعر صوفي (40): "الطبيعة صنعة إلهية وليست بصانع، كتاب رباني وليست بكاتب، نقش ولا يمكن أن يكون نقاشًا، دفتر وليست (دفتردار) قانون وليست قدرة".

يعود مرة أخرى للطبيعة، فيقول(41): "إن الطبيعة ليست طابعًا بل مطبعة، وليست نقاشًا بل نقشًا، وليست فاعلة بل قابلة، وليس مصدرًا بل قانونًا، إن الطبيعة شريعة إلهية"، الطبيعة شريعة إلهية، تدل على خالقها، هذا صنع الله فأروني ماذا صنع الذين كفروا؟

معرفة البشر:

5- لكي يكون الإنسان أهلاً للشهادة على غيره، يجب أن يعرف ذلك (الغير)، معرفة دقيقة جيدة، وإلا فليس أهلاً للشهادة.. والملاحظ أن علوم الحياة تتقدم بخطى ثابتة، بل تقفز قفزات كبيرة، ربما لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل.

لكن علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ما زالت تحبو، وخط سيرها متعرج، وجل أمورها ظني تخميني، وما تثبته مدرسة تنقضه أخرى وتهدمه.

ومن عجب أن الإنسان يسير المركبات ، لمعرفة الكواكب القريبة والبعيدة، وهو لم يكشف نفسه.

نعم إن رجال التربية والاجتماع والنفس، ما زالوا يبذلون جهودًا لفهم الإنسان، ومحاولة معرفة كل ما لديه، ولكن يمكن القول: بأنهم ما زالوا في بداية الطريق.

إن الطريق ذلك المخلوق المكرم، المعتز بنفسه، يملك شخصية فذة، هي نسيج عجيب معقد، فيه موروثات نفسية وبدنية، وثقافة عامة يكسبها من بيئته ومحيطه، وعلم ومعرفة يتلقاها ويكتسبها، ظروف اجتماعية تحيط به، وتؤثر على سلوكه ونفسيته، إضافة إلى عوامل أخرى تعمل متشابكة متداخلة لتكون شخصية متميزة.

إن علوم الإنسان ما زال جلها "فرضيات"، لم تمحص ولم تصل حد النظريات، ولا الحقائق العلمية المقطوع بها، لا فرق في ذلك بين علم التربية وعلم النفس والاجتماع والفلسفة.

والإنسان يتساءل: لماذا يفلح الإنسان في كافة ميادين العلم والمعرفة والتقنية، ثم يفشل في فهم ذاته؟

وفي الإجابة يمكن القول: بأن كل علم ومعرفة له "مرجعية"، أي إطار توجيهي، أو لنقل قواعد أساسية تمنحه بعض الخطوط العريضة، أو الكليات التي مهمتها أن تعصم من يأخذ بها من الوقوع في التيه أو التخبط.

وقد كان كل ذلك متوفرًا في "الوحي" وما جاء به الأنبياء، وآخرهم نبينا عليه السلام، فلما ابتعد الغرب عن الله وهديه، تخبط الإنسان وما زال يتخبط.

إن الإنسان جسم وعقل وروح وعواطف وأشواق، فإذا جرت العناية بالجسم فقط حصلنا على مصارع أو ملاكم أو عداء مثلاً، وإذا جرى اهتمامنا بالعقل فقط حصلنا على فلاسفة وعلماء، وقد تكون نهاية العالم على أيديهم، فيما يخترعون ويصنعون.

فإذا اهتممنا بالروح فقط فيمكن أن نحصل على جيش من الرهبان، وإذا اهتممنا بالعواطف والأشواق فقط فقد نحصل على شعراء أو فنانين.

فإذا اهتممنا بكل مكونات الإنسان، وبشكل متوازن، حصلنا على إنسان سليم متوازن، ومن ثم حصلنا على حضارة متوازنة تخلو من الانحراف.

إن الذي يصعب جحوده، هو ما قام به الغرب من جهود جادة لدراسة الإنسان وفهمه، ولكن العلة - في نظري - كانت متمثلة في فقدان المرجعية.. فالكل يبحث كما يشاء ليصل إلى ما يشاء، ثم ليناقض الكل الكل، ويهدم عالم الاجتماع وما يقوله عالم النفس وبالعكس.. أما المسلمون ولديهم المرجعية والمقدمات الأساسية لفهم الإنسان، فقد أهملوا ذلك، كما أهملوا الاشتغال بعمارة الأرض، وإقامة الحضارة، مع أن ذلك هو واجبهم، بعد عبادة الله تعالى.

وحتى لا نتهم بنكران الجميل، فإن الذين اشتغلوا بعلوم الإنسان وعلوم الحضارة كانوا في معظمهم ممن يقتنع بالمنهج الغربي، ويتولونه، ويثقون به تمام الثقة، وهم بذلك من الغرب وإليه، وإن كانوا منا دينًا ولغة ووطنية.

وبالمثل، فإن اليهودي والنصراني والمجوسي، الذي كان يكتب ويبحث - أيام كانت حضارتنا سائدة - كانوا أجزاء منها، لأنهم كانوا يخدمونها، وهي تخدمهم بما تقدم لهم من وسائل.. وكذلك - يمكنني الادعاء - بأن العربي والمسلم، الذي يشتغل باحثًا ومؤلفًا ومخترعًا في الغرب، هو جزء من حضارة الغرب وليس جزءًا منا.

إنه يستعمل المنهج الغربي، والعلم والتقنية الغربية، وحتى اللغة، ويعمل - وهذا المهم - لحل المشكلات التي تواجه المجتمع الغربي، وإن درس مشكلة من مشاكلنا فيدرسها منهجًا واستثمارًا للغرب، لا أقول هذا بهدف اللوم، ولكن تقريرًا للواقع، كما يظهر لي على الأقل.

وختامًا، أدعو للتمسك بالمرجعية في فهم الإنسان، والتعامل معه، وأريد أن تكون دراستنا مؤطرة بذلك كي نفهم الإنسان المسلم أولاً، ونستطيع النهوض به ثانيًا، فإذا تركنا هذه المرجعية فأي مرجعية نعتمد (42).

إن فهم الناس عمومًا يتطلب معرفة بتاريخهم وجغرافيتهم وتركيبتهم السكانية، والمشاكل التي يعانون منها، وبدون ذلك فإن التعامل لن يكون ناجحًا.

في إفريقيا، حيث الفقر يضرب القارة السوداء ضربًا مخيفًا، تجعل الإفريقي يقدم أولاده إلى كوبا لتأخذهم وتعلمهم الماركسية وحرب العصابات، كما كان يقدم أولاده للدراسة في جامعة الكادحين في روسيا، دون معرفة بالنتائج ولا ما يدرس ولده.

في اليابان البلد الصناعي الفني، إذا قدمت كتابًا لشخص يحرص على دفع ثمنه، ولا يفهم سببًا لكون الكتاب بلا ثمن، ويرفض ذلك.

وإذا جَرّبْتَ مخاطبة الياباني باسم المشرق والعادات الشرقية، يقبل عليك، ولو طلبت منه أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا مانع لديه، ولكن الإنسان الغربي يرفض ذلك بنوع من التعالي، ويقول: إنه نصراني.
رابعًا المسلم والشهادة على الناس - المكتبة الإسلامية - إسلام ويب



 
 توقيع : طالب علم



رد مع اقتباس