عرض مشاركة واحدة
قديم 04 Apr 2010, 02:42 AM   #15
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ص -95- الأرواح وطيب الحياة ولذة العيش وأطيب النعيم مما لو وزن منه مثقال ذرة بنعيم الدنيا لم يف به بل إذا حصل للقلب من ذلك أيسر نصيب لم يرض بالدنيا وما فيها عوضا منه ومع هذا فهو يتنعم بنصيبه من الدنيا أعظم من تنعم المترفين فيها ولا يشوب تنعمه بذلك الحظ اليسير ما يشوب تنعم المترفين من الهموم والغموم والأحزان والمعارضات بل قد حصل له على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما وما يحصل له في خلال ذلك من الآلام فالأمر كما قال سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} فلا إله إلا الله ما أنقص عقل من باع الدُّرَّ بالبعر والمسك بالرجيع ومرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم جهنم وساءت مصيرا.
فصل:
ومن أعظم عقوباتها: أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر فأي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى عنه طرفة عين ولا بدل له منه ولا عوض له عنه واتصلت به أسباب الشر ووصل ما بينه وبين أعدى عدو له فتولاه عدوه وتخلى عنه وليه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب
قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ





ص -96- فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} يقول سبحانه لعباده: أنا أكرمت آباكم ورفعت قدره وفضلته على غيره فأمرت ملائكتي كلهم أن يسجدوا له تكريما وتشريفا فأطاعوني وأبى عدوي وعدوه فعصى أمري وخرج عن طاعتي فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذونه وذريته أولياء من دوني فتطيعونه في معصيتي وتوالونه في خلاف مرضاتي وهم أعدا عدو لكم؟ فواليتم عدوي وقد أمرتكم بمعاداته ومن والى أعداء الملك كان هو وأعداؤه عنده سواء فإن المحبة والطاعة لا تتم إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه وأما أن توالي أعداء الملك ثم تدعي أنك موال له فهذا محال هذا لو لم يكن عدو الملك عدوا لكم فكيف إذا كان عدوكم على الحقيقة والعداوة التي بينكم وبينه أعظم من العداوة التي بين الشاة وبين الذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوه وعدو وليه ومولاه الذي مولى له سواه؟ ونبه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} كما نبه على قبحها بقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فتبين أن عداوته لربه وعداوته لنا كل منهما سبب يدعو إلى معاداته فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال بئس للظالمين بدلا.
ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العتاب لطيف عجيب وهو أني عاديت إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي فكانت معاداته لأجلكم ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقدا المصالحة.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه





ص -97- ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
وقد تقدم الأثر الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد "أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تدرك السابع من الولد" وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه.
وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره بل حياة البهائم خير من حياته فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده أو الإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُُنس بقربه ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض مما في الدنيا بل ليست الدنيا بأجمعها عوضا عن هذه الحياة فمن كل شيء يفوت العبد عوض وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء البتة وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغنى بالذات والعاجز بالذات عن القادر بالذات والميت عن الحي الذي لا يموت والمخلوق عن الخالق ومن لا وجود له ولا شيء





ص -98- له من ذاته البتة عمن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السموات والأرض؟
وإنما كانت معصية الله سببا لمحق بركة الرزق والأجل لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها فسلطانه عليهم وحوالته على هذا الديون وأهله وأصحابه وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة فإن الرب هو الذي يبارك وحده والبركة كلها منه وكل ما نسب إليه مبارك فكلامه مبارك ورسوله مبارك وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك وبيته الحرام مبارك وكنانته من أرضه وهى الشام أرض البركة وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه فلا مبارك إلا هو وحده ولا مبارك إلا ما نسب إليه أعني إلى ألوهيته ومحبته ورضاه وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه وكل ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه وكل ما كان قريبا من ذلك ففيه من البركة على حسب قدر قربه منه.
وضد البركة اللعنة فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة وكلما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة وقد لعن عدوه إبليس وجعله أبعد خلقه منه فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به فمن هاهنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل وكل وقت عصيت الله فيه أو مال عصي الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع الله به.



ص -99- ولهذا فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ويكون عمره لايبلغ عشرة سنين أو نحوها كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها وهكذا الجاه والعلم.
وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله" هذا هو الذي فيه البركة خاصة والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئا لأن يكون من العلية فإن الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه وأهل معصيته أهون خلقه عليه وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي بين يدي رمحي وجعلت الذل والصغار على من خالف أمري" فكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس.
ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا





ص -100- أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ولا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"
فأي صعود يوازي هذه المنزلة؟ والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته.ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا متى رجع إلى الطاعة فقد يعود إلى درجته وقد لا يصل إليها وقد يرتفع عنها فإنه قد يعود أعلى همة مما كان وقد يكون أضعف همة وقد تعود همته كما كانت.
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا يحتاج في عودة إلى توبة نصوح وإنابة صادقة.
واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها.
قالوا: وتقرير ذلك أنه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر وارتفاعه تحمله أعماله السالفة بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه وكلما تضاعف المال تضاعف الربح فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح بجملة أعماله فإذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى أعلى وبينهما بون عظيم.





ص -101- قالوا: ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما وهما سواء فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد.
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته ومنهم من يعود إلى من مثل درجته ومنهم من لا يصل إلى درجته ومنهم من يعود إلى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة فإنها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه وإدلاله بأعماله ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ سيده ومولاه له وإلى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحييا منه خائف وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس