فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيعللواجبات والمنتهك للمحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابقيدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقونالسابقون أولئك المقربون
ثم ان كلا منهم يذكر هذا فى نوع من أنواعالطاعات كقول القائل السابق الذى يصلى فى أول الوقت والمقتعد الذى يصلى فى أثنائهوالظالم لنفسه الذى يؤخر العصر الى الاصفرار ويقول الآخر السابق والمقتصد والظالمقد ذكرهم فى آخر سورة البقرة فانه ذكر المحسن بالصدقة والظالم يأكل الربا والعادلبالبيع والناس فى الاموال اما محسن وإما عادل وإما ظالم فالسابق المحسنباداء
المستحبات مع الوجبات والظالم آكل الربا أومانع الزكاة والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذهالأقاويل فكل قول فيه ذكر نوع داخل فى الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية لهوتنبيهه به على نظيره فان التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلقوالعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن اذا أشير له الى رغيف فقيل له هذا هوالخبز
وقد يجىء كثيرا من هذا الباب قولهم هذهالآية نزلت فى كذا لا سيما ان كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة فى التفسيركقولهم ان آية الظهار نزلت فى امرأة أوس بن الصامت وان آية اللعان نزلت فى عويمرالعجلانى أو هلال بن أمية وأن آية الكلالة نزلت فى جابر بن عبدالله وأن قوله وانأحكم بينهم بما أنزل الله نزلت فى بنى قريظة والنضير وان قوله ومن يولهم يومئذ دبرهنزلت فى بدر وان قوله شهادة بينكم اذا حضر أحدكم الموت نزلت فى قضية تميم الدارىوعدى بن بداء وقول أبى ايوب ان قوله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة نزلت فينا معشرالأنصار الحديث ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل فى قوم من المشركين بمكة أو فىقوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو فى قوم من المؤمنين
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآيةمختص بأولئك الاعيان دون غيرهم فان هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الاطلاق والناسوان تنازعوا فى اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا فلم يقل أحد منعلماء المسلمين ان عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وانما غاية ما يقالأنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسباللفظ
والآية التى لها سبب معين ان كانت أمراونهيا فهى متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وان كانت خبرا بمدح أو ذم فهىمتناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضا
ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإنالعلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قولى الفقهاء أنه اذا لم يعرف مانواه الحالف رجع الى سبب يمينه وما هيجها وأثارها
وقولهم نزلت هذه الآية فى كذا يراد به تارةأنه سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل فى الآية وان لم يكن السبب كما تقول عنىبهذه الآية كذا
وقد تنازع العلماء فى قول الصاحب نزلت هذهالآية فى كذا هل يجرى مجرى المسند كما يذكر السبب الذى أنزلت لأجله أو يجرى مجرىالتفسير منه الذى ليس بمسند فالبخارى يدخله فى المسند وغيره لا يدخله فى المسندوأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما اذا ذكر سببا نزلت عقبهفانهم كلهم يدخلون مثل هذا فى المسند
وإذا عرف هذا فقول أحدهم نزلت فى كذا لاينافى قول الآخر نزلت فى كذا اذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه فى التفسيربالمثال واذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا فقد يمكن صدقهما بأنتكون نزلت عقب تلك الاسباب أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذاالسبب
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما فى تنوعالتفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامهكالتمثيلات هما الغالب فى تفسير سلف الأمة الذى يظن أنه مختلف
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظفيه محتملا للأمرين اما لكونه مشتركا فى اللفظ كلفظ قسورة الذى يراد به الرامىويراد به الأسد ولفظ عسعس الذى يراد به اقبال الليل وادباره
وأما لكونه متواطئا فى الأصل لكن المراد بهأحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر فى قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنىوكلفظ الفجر وليال عشر والشفع والوتر وما أشبه ذلك
فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعانىالتى قالها السلف وقد لا يجوز ذلك فالأول اما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذاتارة وهذا تارة وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه اذ قد جوز ذلك أكثرالفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من اهل الكلام وإما لكون اللفظ متواطئافيكون عاما اذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع اذا صح فيه القولان كان من الصنفالثانى
ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعضالناس اختلافا أن يعبروا عن المعانى بألفاظ متقاربة لا مترادفة فان الترادف فىاللغة قليل وأما فى ألفاظ القرآن فاما نادر واما معدوم وقل أن يعبر عن لفظ واحدبلفظ واحد يؤدى جميع معناه بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من اسباب اعجاز القرآنفاذا قال القائل يوم تمور السماء مورا ان المور الحركة كان تقريبا اذ المور حركةخفيفة سريعة
وكذلك اذا قال الوحى الاعلام أو قيل أوحينااليك أنزلنا اليك أو قيل وقضينا الى بنى اسرائيل أى اعلمنا وأمثال ذلك فهذا كلهتقريب لا تحقيق فإن الوحى هو اعلام سريع خفى والقضاء اليهم أخص من الاعلام فإن فيهانزالا إليهم وإيحاء إليهم والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلطمن جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون فى قوله لقد ظلمك بسؤال نعجتك الىنعاجه أى مع نعاجه و من أنصارى الى الله أى مع الله ونحو ذلك والتحقيق ما قاله نحاةالبصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها الى نعاجه وكذلك قوله وان كادواليفتنونك عن الذى أوحينا اليك ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله ونصرناه منالقوم الذين كذبوا بآياتنا ضمن معنى نجيناه وخلصناه وكذلك قوله يشرب بها عباد اللهضمن يروى بها ونظائره كثيرة
ومن قال لا ريب لا شك فهذا تقريب والافالريب فيه اضطراب وحركة كما قال دع ما يريبك الى ما لا يريك وفى الحديث أنه مربظبى حاقف فقال لا يريبه أحد فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمنالاضطراب والحركة ولفظ الشك وان قيل أنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدلعليه
وكذلك اذا قيل ذلك الكتاب هذا القرآن فهذاتقريب لأن المشار اليه وان كان واحدا فالاشارة بجهة الحضور غير الاشارة بجهة البعدوالغيبة ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبا مضموما ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونهمقروءا مظهرا باديا فهذه الفروق موجودة فى القرآن فاذا قال أحدهم ان تبسل أى تحبسوقال الآخر ترتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد وان كان المحبوس قد يكون مرتهناوقد لا يكون اذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم وجمع عبارات السلف فى مثل هذا نافع جدافان مجموع عباراتهم ادل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلابد من اختلافمحقق بينهم كما يوجد مثل ذلك فى الأحكام
ونحن نعلم أن عامة ما يضطر اليه عموم الناسمن الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة كما فى عدد الصلوات ومقاديرركوعها ومواقيتها وفرائض الزكاة ونصبها وتعيين شهر رمضان والطواف والوقوف ورمىالجمار والمواقيت وغير ذلك
ثم اختلاف الصحابة فى الجد والأخوة وفىالمشركة ونحو ذلك لا يوجب ريبا فى جمهور مسائل الفرائض بل ما يحتاج اليه عامة الناسهو عمود النسب من الآباء والابناء والكلالة من الأخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواجفان الله أنزل فى الفرائض ثلاث آيات مفصلة ذكر فى الأولى الأصول والفروع وذكر فىالثانية الحاشية التى ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم وفى الثانية الحاشية الوارثةبالتعصيب وهم الأخوة لأبوين أو لأب واجتماع الجد والأخوة نادر ولهذا لم يقع فىالاسلام الا بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أولذهول عنه وقد يكون لعدم سماعه وقد يكون للغلط فى فهم النص وقد يكون لاعتقاد معارضراجح فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله
فصل
الاختلاف فى التفسير على نوعين منه مامستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك اذ العلم اما نقل مصدق واما استدلال محققوالمنقول اما عن المعصوم واما عن غير المعصوم والمقصود بان جنس المنقول سواء كان عنالمعصوم أو غير المعصوم وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيفومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه وهذا القسم الثانى من المنقول وهو ما لا طريق لناالى جزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه فالكلام فيه من فضول الكلام
وأما ما يحتاج المسلمون الى معرفته فانالله نصب على الحق فيه دليلا فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم فىلون كلب أصحاب الكهف وفىالبعض الذى ضرب به موسى من البقرة وفى مقدار سفينة نوح وماكان خشبها وفى اسم الغلام الذى قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريق العلم بهاالنقل فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحا عن النبى صلى الله عليه وسلم كاسم صاحبموسى أنه الخضر فهذا معلوم وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقولعن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولاتكذيبه الا بحجة كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال اذا حدثكمأهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فاما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه واما أن يحدثوكمبباطل فتصدقوه