عرض مشاركة واحدة
قديم 11 Apr 2011, 10:19 PM   #12
أبو سفيان
Banned


الصورة الرمزية أبو سفيان
أبو سفيان غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 2349
 تاريخ التسجيل :  Jan 2008
 أخر زيارة : 24 Jan 2012 (09:58 PM)
 المشاركات : 5,855 [ + ]
 التقييم :  14
لوني المفضل : Cadetblue
Re: تفسير"واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان...." من عدة تفاسير



القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ قال أبو جعفر: يعني بقوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين)، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنـزله على موسى، وراء ظهورهم, تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون, كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منـزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم, ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه, وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان). فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة, فوجدوا التوراة للقرآن موافقة, تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1646 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) - على عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء, فتقعد منها مقاعد للسمع, فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر, (1) فيأتون الكهنة فيخبرونهم, فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق, ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق, وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان, وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان, وخلف بعد ذلك خلف, تمثل الشيطان في صورة إنسان, ثم أتى نفرا من بني إسرائيل, فقال: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدا؟ (2) قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. (3) فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم, فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها, فذلك حين يقول: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ . (4)
1647 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة, لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. (5) فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به, فأنـزل الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك, فدفنوه تحت مجلس سليمان - (6) وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم. (7)
* * *
1648 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، قال: لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الآية، قال: اتبعوا السحر, وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1649 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان.
1650 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام, فكتبوا أصناف السحر: " من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا, فليفعل كذا وكذا ". حتى إذا صنعوا أصناف السحر, (8) جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان, وكتبوا في عنوانه: " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم "، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا, فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه, فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نـزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين, قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! (9) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا). (10)
* * *
قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، (11) فلما رجع الله إلى سليمان ملكه, قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك, (12) فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان, وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا, فأنـزل الله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل, وتأنيب منه لهم في رفضهم تنـزيله, وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله, واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (13)
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: (واتبعوا) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول, ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية, على النحو الذي قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما تتلوا الشياطين)، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
* * *
واختلف في تأويل قوله: (تتلو). فقال بعضهم: يعني بقوله: (تتلو)، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو " تِلاوة " الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم .
* ذكر من قال ذلك:
1651 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو, عن مجاهد في قول الله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر. (14)
1652 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه.
1653 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، قال: نراه ما تحدث.
1654 - حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان, فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر, ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس. (15)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ما تتلو)، ما تتبعه وترويه وتعمل به.
* ذكر من قال ذلك:
1655 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي, عن أسباط, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس: (تتلوا)، قال: تتبع. (16)
1656 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم, عن سفيان الثوري, عن منصور, عن أبي رزين مثله. (17)
* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين.
* * *
ولقول القائل: " هو يتلو كذا " في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع, كما يقال: " تلوت فلانا " إذا مشيت خلفه وتبعت أثره, كما قال جل ثناؤه: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [ يونس: 30]، (18) يعني بذلك تتبع.
والآخر: القراءة والدراسة, كما تقول: " فلان يتلو القرآن ", بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه, كما قال حسان بن ثابت:
نبـي يـرى مـا لا يـرى الناس حوله

ويتلـو كتـاب اللـه فـي كـل مشهد (19)


ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأي معنى " التلاوة " كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل, ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. (20)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مُلْكِ سُلَيْمَانَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (على ملك سليمان)، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع " في" موضع " على " و " على " في موضع " في". (21) من ذلك قول الله جل ثناؤه: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: 71] يعني به: على جذوع النخل, وكما قالوا: " فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا "، بمعنى واحد. (22) وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله:
1657 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: (على ملك سليمان)، يقول: في ملك سليمان.
* * *
1658 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: (على ملك سليمان)، أي: في ملك سليمان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، (23) ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان, بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود, نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى > الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته, وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، (24) عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه, وعند من كان لا علم له بما أنـزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان, وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر, (25) وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها, وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا, وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان, دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنـزله على موسى صلوات الله عليه.
* * *
* ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار:
* * *
1659 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر, فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه, فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنـزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية, فأنـزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. (26)
1660 - حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة, وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم, فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به, أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه, فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه, حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنـزل جل ثناؤه: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر -(وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، فأنـزل الله جل وعز وعذره. (27)
1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير, عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا, فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (28)
1662 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها, فإذا حدث منه صدق، (29) كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنـزه الممنع الذي لا كنـز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - (30) فأنـزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (31) .
1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. (32) فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب, فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، (33) كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس, فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك, فقال جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا).
1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك, ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب, فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).
1665 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. (34)
1666 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: " من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا, ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا ". فكتبته وجعلت عنوانه: " هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ", ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا, وإنما كان ساحرا, فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا, وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان, فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء, وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنـزل الله عذر سليمان: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية. (35)
1667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين, قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)،-أي باتباعهم السحر وعملهم به- وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ . (36)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا، (37) ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه, وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان, وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) على ما قلنا.
1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تَتْلُو , (38) وتوجيه من وجه ذلك إلى أن تَتْلُو بمعنى " تلت "، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: وَاتَّبَعُوا ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول, (39) فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما معنى قوله: مَا تَتْلُو ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر. (40)
1669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، أي السحر. (41)
* * *
قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟
قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك, وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم, وقد كانوا قبل سليمان, وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر.
[فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه, فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه, على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل " ما " التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين). فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى " لم ".
* ذكر من قال ذلك:
1670 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فإنه يقول: لم ينـزل الله السحر.
1671 - حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: (وما أنـزل على الملكين)، قال: ما أنـزل الله عليهما السحر.
* * *
فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: (وما أنـزل على الملكين) إلى: ولم ينـزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر, وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " ببابل هاروت وماروت ". فيكون حينئذ قوله: "(ببابل هاروت وماروت)، من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [من السحر]، وما أنـزل [الله السحر] على الملكين, ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت - فيكون معنيا بـ " الملكين ": جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر قط, وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر, فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين, وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل, وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: (42) اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون " هاروت وماروت "، على هذا التأويل، ترجمة على النَّاسَ وردا عليهم. (43)
* * *
وقال آخرون: بل تأويل " ما " التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) -" الذي".
* ذكر من قال ذلك:
1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة والزهري عن عبد الله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها, (44) ثم ذهبا يصعدان, فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ .
1673 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنـزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. (45)
1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت). فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين, وسحر يعلمه هاروت وماروت.
1675 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، قال: التفريق بين المرء وزوجه.
1676 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين)، فقرأ حتى بلغ: فَلا تَكْفُرْ ، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنـزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله, سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى.
* * *
قال أبو جعفر (46) إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينـزل الله السحر, أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟
قلنا له: إن الله عز وجل قد أنـزل الخير والشر كله, وبين جميع ذلك لعباده, فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
(47) وليس في العلم بالسحر إثم, كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر, وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.
(48) فليس في إنـزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهياه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به, إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. (49) ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك, لم يكن من تعلمه حرجا, كما لم يكونا حرجين لعلمهما به. (50) إذ كان علمهما بذلك عن تنـزيل الله إليهما. (51)
* * *
وقال آخرون: معنى " ما " معنى " الذي", وهي عطف على " ما " الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان, والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
* ذكر من قال ذلك:
1677 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين, وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه, كما قال الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: جائز أن تكون " ما " بمعنى " الذي", وجائز أن تكون " ما " بمعنى " لم ".
* ذكر من قال ذلك:
1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله: (يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنـزل عليهما, أم يعلمان الناس ما لم ينـزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
*
1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض, عن بعض أصحابه, أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: (وما أنـزل على الملكين)، فقيل له: أنـزل أو لم ينـزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان, إلا أني آمنت به. (52) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه " ما " التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) إلى معنى " الذي"، دون معنى " ما " التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن " ما " إن وجهت إلى معنى الجحد, تنفي عن " الملكين " أن يكونا منـزلا إليهما، (53) ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني" هاروت وماروت " - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما (54) أو بدلا من النَّاسَ في قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وترجمة عنهما. (55) فإن جعلا بدلا من " الملكين " وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ . لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه, فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ (56)
وبعد, فإن " ما " التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين)، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين.
وإن كان قوله " هاروت وماروت " ترجمة عن " الناس " الذين في قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر, وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك, فلن يخلو " هاروت وماروت " - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين:
إما أن يكونا ملكين, فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس, وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.
أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. (57) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم, فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما. وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم, لم يعدما من الأرض منذ خلقت, ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. (58)
* * *
فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها, فبَيِّنٌ أن معنى (ما) التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) بمعنى " الذي", وأن " هاروت وماروت "، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما, لأنهما في موضع خفض على الرد على " الملكين ". ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما.
* * *
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنـزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه, ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك, لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه, فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنـزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر, فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما, ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين, إذْ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله, فلم يكن ذلك لهم ضائرا، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به, بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. (59) فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:-
1680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن في قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) إلى قوله: فَلا تَكْفُرْ ، أخذ عليهما ذلك.
* * *
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين, ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (ببابل):
* * *
1681 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب, عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم, فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك, وأسجدت له ملائكتك, وعلمته أسماء كل شيء, يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض, وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا, ولا يزنيا, ولا يشربا الخمر, ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها " بيذخت " فلما أبصراها أرادا بها زنا, فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر, أفرج الله السماء لملائكته, فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا, فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. (60)
1682 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا, دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! (61) فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنـزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونـزلتم لفعلتم أيضا! (62) قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض، وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس, وكان أهل فارس يسمونها " بيذخت ". قال: فوقعا بالخطيئة, فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. (63) رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا . فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. (64)
1683 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد, عن خالد الحذاء, عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس, وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها, فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. (65)



 

رد مع اقتباس