عرض مشاركة واحدة
قديم 11 Apr 2011, 10:20 PM   #13
أبو سفيان
Banned


الصورة الرمزية أبو سفيان
أبو سفيان غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 2349
 تاريخ التسجيل :  Jan 2008
 أخر زيارة : 24 Jan 2012 (09:58 PM)
 المشاركات : 5,855 [ + ]
 التقييم :  14
لوني المفضل : Cadetblue
Re: تفسير"واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان...." من عدة تفاسير



1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق - جميعا, عن الثوري, عن موسى بن عقبة, عن سالم, عن ابن عمر, عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب, فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت, فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول, انـزلا لا تشركا بي شيئا, ولا تزنيا, ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنـزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. (66)
1685 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار, عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي, فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت, فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس, وليس بيني وبينكما رسول, انـزلا إلى الأرض, ولا تشركا بي شيئا, ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نـزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. (67)
1686 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم, فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نـزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انـزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنـزلا ببابل دنباوند, فكانا يحكمان, حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها, فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية،" الزُّهَرة ", وبالنبطية " بيذخت ", واسمها بالفارسية " أناهيذ " - فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم, ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها, فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها, فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها, قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنـزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنـزل به فبقيت مكانها, (68) وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك, (69) فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة, فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة, فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر.
1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله, قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك, وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. (70) فلم يعذروهم, فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض, وجعل بهما شهوات بني آدم, (71) وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا, ونهيا عن قتل النفس الحرام, وأكل المال الحرام, والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، (72) فخضعا لها بالقول, وأراداها على نفسها, وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها, وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه, فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله, (73) ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم, قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم, أو تقتلا النفس, أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي, وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر, حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك, فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا, فحيل بينهما وبين ذلك, وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب, فعجبوا كل العجب, وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية (74) فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة, قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا, فجعلا ببابل, فهما يعذبان. (75)
1688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر, فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- (76) ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (77) وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا, فاختاروا هاروت وماروت. (78)
1689 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت, فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنـزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنـزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم, وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء, (79) وأنتما ليس بيني وبينكما رسول, فافعلا كذا وكذا, ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. (80) ثم نـزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم, فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة, وينـزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنـزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم, فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه, فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالا لها -وقضيا لها- : ائتينا! فأتتهما, (81) فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا, طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، (82) ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم, فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. (83) فأمرا أن ينـزلا ببابل, فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما. (84)
* * *
قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وما أنـزل على الملكين)، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، (85) فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها.
* * *
وأمأ قوله (ببابل)، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها " بابل دُنْبَاوَنْد ".
1690 - حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي. (86)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك " بابل العراق ".
* ذكر من قال ذلك:
1691 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة, فذكرت أنها صارت في العراق ببابل, فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. (87)
قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر, فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر, حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء, ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-
1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. (88)
1693 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن هشام بن عروة، عن أبيه, عن عائشة قالت، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم, حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. (89)
1694 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق. (90)
* * *
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته, واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات, لم يكن بين الحق والباطل فصل, (91) ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [سورة طه: 66]، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله, أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره, ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان وصحة ما قلنا. (92)
* * *
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا, وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:-
1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل, جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك, (93) تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي, فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها, (94) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني, فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها, فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين, فركبت أحدهما وركبت الآخر, فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل, (95) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما, فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. (96) فذهبت ففزعت فلم أفعل, فرجعت إليهما, فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت, (97) فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت, فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري, فإنك على رأس أمرك! (98) فأربيت وأبيت, فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه, فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه, (99) فقالا صدقت, ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى, لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت, وقلت: أطلعي! فأطلعت, وقلت: أحقلي! فأحقلت, ثم قلت: أفركي! فأفركت, ثم قلت: أيبسي! فأيبست, ثم قلت: أطحني! فأطحنت, ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (100) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. (101)

قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا, وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان, لم يكن تفريقا على صحة, وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة.
* * *
وقال آخرون: بل " السحر " أخذ بالعين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنـزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-
1696 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه, (102) فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .
1697 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة والحسن: (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. (103)
1698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا " إنما نحن فتنة فلا تكفر ".
1699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا " إنما نحن فتنة فلا تكفر ".
1700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك.
1701 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا " إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ". لا يجترئ على السحر إلا كافر.
* * *
وأما الفتنة في هذا الموضع, فإن معناها: الاختبار والابتلاء, من ذلك قول الشاعر. (104)
وقــد فتــن النــاس فـي دينهـم

وخــلى ابـن عفـان شـرا طـويلا (105)


ومنه قوله: " فتنت الذهب في النار "، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، " أفتنه فتنة وفتونا "، كما:-
1702 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة (إنما نحن فتنة)، أي بلاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (فيتعلمون منهما)، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنـزل عليهما, وليس بجواب لقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل: " فيتعلمون ". فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. (106)
وقد قيل: إن قوله: (فيتعلمون)، خبر عن اليهود معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ،" فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه). وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، (107) أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام.
و " الهاء " و " الميم " و " الألف " من قوله: (منهما)، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
* * *
و " ما " التي مع " يفرقون " بمعنى " الذي". وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. (108)
وأما " المرء "، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم, والأنثى منه " المرأة ". يوحد ويثنى, ولا تجمع ثلاثته على صورته, (109) يقال منه: " هذا امرؤ صالح, وهذان امرآن صالحان ". ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق, ولكن يقال: " هؤلاء رجال صدق ", وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان ". ولا يقال: هؤلاء امرآت, ولكن: " هؤلاء نسوة ".
* * *
وأما " الزوج ", فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: " هي زوجه " بمنـزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [سورة الأحزاب: 37]، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: " هي زوجته ". (110) كما قال الشاعر: (111)
وإن الـذي يمشـي يحـرش زوجـتي

كمـاش إلـى أسـد الشـرى يسـتبيلها (112)


فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى " السحر ": تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. (113) فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه, (114) فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (115) فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1703 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه, (116) ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.
* * *
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه, فإنهم وجهوا تأويل قوله: (فيتعلمون منهما) إلى " فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه, كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا ", أي مكان كذا، كما قال الشاعر:
ججَـمَعَت مـن الخـيرات وَطبا وعلبة

وصــرا لأخـلاف المُزَنَّمـة الـبزل (117)

ومـن كـل أخـلاق الكـرام نميمـة

وسـعيا عـلى الجـار المجاور بالنَّجْل (118)


يريد بقوله: " جمعت من الخيرات ", مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر:
صلـدت صفـاتك أن تليـن حيودهـا

وورثـت مـن سـلف الكـرام عقوقا (119)


يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه, بضارين - بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى, فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه.
* * *
وللإذن " في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة. (120)
ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.
ومنها العلم بالشيء, يقال منه: " قد أذنت بهذا الأمر " إذا علمت به "آذن به إذنا "، ومنه قول الحطيئة:
ألا يــا هنــد إن جـددت وصـلا

وإلا فـــــأذنيني بــــانصرام (121)


يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [سورة البقرة: 279]، وهذا هو معنى الآية, كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:-
1704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان في قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، قال: بقضاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ويتعلمون)، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنـزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه, يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا, فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (122) (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم, نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به, بعد إنـزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم, وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم, المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان, والذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنـزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:-
1705 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة.
1706 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق.
1707 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه.
1708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (لمن اشتراه)، فإن " من " في موضع رفع, وليس قوله: (ولقد علموا) بعامل فيها. لأن قوله: (ولقد علموا)، (123) بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: (قد علموا) بمعنى اليمين، حققت بـ " لام اليمين ", فقيل: (لمن اشتراه)، كما يقال: " أقسم لمن قام خير ممن قعد ". وكما يقال: " قد علمت، لعمرو خير من أبيك ".
وأما " من " فهو حرف جزاء. وإنما قيل " اشتراه " ولم يقل " يشتروه ", لدخول " لام القسم " على " من ". ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ " فعل " دون " يفعل "، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم, كما قال الله جل ثناؤه: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [سورة الحشر: 12]، وقد يجوز إظهار فعله بعده على " يفعل " مجزوما, (124)
كما قال الشاعر:
لئـن تـك قـد ضـاقت عليكم بيوتكم

ليعلــم ربــي أن بيتــي واســع (125)


* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما له في الآخرة من خلاق). فقال بعضهم: " الخلاق " في هذا الموضع: النصيب.
* ذكر من قال ذلك:
1709 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: من نصيب.
1710 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما له في الآخرة من خلاق)، من نصيب.
1711 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: (وما له في الآخرة من خلاق)، أنه ما له في الآخرة من نصيب.
* * *
وقال بعضهم: " الخلاق " ههنا الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
1712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (وما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له في الآخرة حجة.
وقال آخرون: الخلاق: الدين.
* ذكر من قال ذلك:
1713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له دين.
* * *
وقال آخرون: " الخلاق " ههنا القوام.
* ذكر من قال ذلك:
1714 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قوام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى " الخلاق " في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
1715 -" ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ". (126)
يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يَدْعُـون بـالويل فيهـا لا خَـلاق لهم

إلا ســرابيلُ مــن قِطْـر وأغـلال (127)


يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال.
* * *
فكذلك قوله: (ما له في الآخرة من خلاق): ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه, فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: (ما له في الآخرة من خلاق)، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة, وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر, وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات, وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى " شروا ": " باعوا ". (128) فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما:
1716 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي (ولبئس ما شروا به أنفسهم)، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)؟ وقد قال قبل: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم, وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟
قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم, وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله, ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم, ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون, ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: (لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه, وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة, جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنـزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها, ويكفرون بالله ورسله, ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنـزيله, عنادا منهم، وبغيا على رسله, وتعديا منهم لحدوده, على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، يعني به الشياطين, وأن قوله: (لو كانوا يعلمون)، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنـزيل. لأن الآيات قبل قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، وبعد قوله: (لو كانوا يعلمون)، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم, وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم, مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، أحد تلك الأخبار عنهم.
* * *
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: (لو كانوا يعلمون) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه, وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما: " لو علمت لأقصرت " كما قال كعب بن زهير المزني, وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:
إذ إذا حـضراني قلـت: لـو تعلمانه!!

ألـم تعلمـا أنـي مـن الـزاد مرمل (129)


فأخبر أنه قال لهما: " لو تعلمانه ", فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ و (لو كانوا يعلمون)
* * *
وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا وقوله: (لو كانوا يعلمون)، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه, حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نـزل القرآن أولى. (130) ------------------------
الهوامش :
(1) في تفسير ابن كثير 1 : 249 : "ما يكون في الأرض . . أو غيب" .
(2) لا تأكلونه : أي لا تنفدونه أبدا . يقال : أكل فلان عمره : إذا أفناه .
(3) في المطبوعة : "فقام" ، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير .
(4) الأثر : 1646 - في تفسير ابن كثير 1 : 249 .
(5) خاصمني فخصمته أخصمه : غلبته بالحجة في خصومي .
(6) في تفسير ابن كثير : "تحت كرسي مجلس سليمان" .
(7) الأثر : 1647 - في تفسير ابن كثير 1 : 249 - 250 .
(8) في تفسير ابن كثير : "صنفوا أصناف السحر" . وهي أجود .
(9) في المطبوعة : "لمحمد صلى الله عليه وسلم" ، والذي أثبته مقتضى سياق كلامهم .
(10) إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر 1 : 250 ، أما سائر الخبر ، فإنه رواه في 1 : 247 ، وصدره بقوله : "وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية - وكان حين ذهب ملك سليمان . . " ، وساق الخبر بنصه هذا . فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط ، أم هذه جزء من رواية الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس .
(11) الفئام : الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه .
(12) حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به . وهو منصوب على الظرفية .
(13) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 38 - 39 .
(14) الأثر : 1651 - في تفسير ابن كثير 1 : 250 .
(15) الأثر : 1654 - كان في المطبوعة : "سالم بن جنادة" ، وهو خطأ ، وانظر التعليق على الأثر رقم : 48 في الجزء الأول . وهو جزء من خبر سيأتي برقم : 1660 .
(16) الأثر : 1655 - في المطبوعة"العبقري" ، وهو خطأ ، وانظر التعليق على الأثر رقم : 1625 .
(17) الأثر : 1656 - في المطبوعة"نصر بن عبد الرحمن الأودي" ، وهو خطأ وانظر التعليق على الأثر : 423 في الجزء الأول .
(18) "هنالك تتلو" إحدى القراءتين ، والأخرى"هنالك تبلو" ، وهي التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره 11 : 79"إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء" .
(19) ديوانه : 88 ، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد ، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة . ورواية الديوان : "في كل مسجد" ، ورواية الطبري أمثل .
(20) كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله" ما تتلو" الذي سيأتي في : 418
(21) انظر ما سلف 1 : 299 .
(22) في المطبوعة : "وكما قال : فعلت كذا . . " ولا يستقيم إلا على تمريض .
(23) قوله : "وما هذا الكلام" الإشارة فيه إلى الآية التي يؤولها : "وما كفر سليمان" يقولون : ما مكان هذا الكلام - من هذا الكلام وهو قوله : "واتبعوا ما تتلو الشياطين" .
(24) في المطبوعة"لأنفسهم" ، والصواب إسقاط هذه اللام ، كما يدل عليه السياق .
(25) سياق العبارة : "وتبرأ . . من سليمان . . منهم بشر" . ولعل"بشر" هذه"نفر" ، أي جماعة . يقول : تبرأت جماعة أخرى من سليمان ، إذ نسب إلى السحر ، وكفروه .
(26) الثر : 1659 - في تفسير ابن كثير 1 : 250 .
(27) الأثر : 1660 - انظر الأثر السالف : 1654 والتعليق عليه .
(28) الأثر : 1661 - في تفسير ابن كثير 1 : 251 ، وفيه"فزاد الناس" . . مكان"فرأى" والصواب ما في الطبري .
(29) في تفسير ابن كثير : "فإذا جرت منه وصدق" ، ولعلها تصحيف .
(30) في تفسير ابن كثير : "حتى بقاياها" .
(31) الأثر : 1662 - في تفسير ابن كثير 1 : 248 - 249 ، مع اختلاف في بعض اللفظ غير الذي أثبته .
(32) في المطبوعة : "وأعلموهم إياه" ، وقد مضى في رقم : 1652 ، "وعلموهم" ، وكذلك أثبتها هنا .
(33) في المطبوعة : "فتتبع تلك الكتب" بزيادة الفاء ، ولا موضع لها .
(34) الأثر : 1665 - كان في المطبوعة : "حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج" أسقط منه"قال حدثنا الحسين" ، وهو إسناد دائر في الطبري ، أقربه إلينا رقم : 1657 ، وسيأتي في الذي يلي .
(35) الأثر : 1666 - في تفسير ابن كثير 1 : 251 .
(36) الأثر : 1667 - سيرة ابن هشام 2 : 192 - 193 .
(37) في المطبوعة : "فتبين" وما أثبت أشبه بعبارة الطبري .
(38) انظر ما سلف قريبا : 411 .
(39) قوله : "وتوجيه من وجه ذلك أن : تتلو - بمعنى : تلت" لم يأت هنا في تفسير الآية ، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة : 91 ، ص 350 - 352 .
(40) هذه الفقرة ، والأخرى التي قبلها ، والأثر الآتي رقم : 1669 ، كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله : "ما تتلو الشياطين" فيما مضى : 411 .
(41) الأثر : 1669 - سيرة ابن هشام 2 : 192 .
(42) في المطبوعة وابن كثير : "وأن الذين يعلمونهم" ، وما أثبت هو الصواب .
(43) "الترجمة" عند الكوفيين هي"البدل" ، وانظر ما سلف 2 : 340 وانظر ما سيأتي : 423 . والزيادات التي بين الأقواس في هذه الفقرة ، من تفسير ابن كثير 1 : 252 ، وقد نقل كلام الطبري بنصه .
(44) حاف له يحيف حيفا : مال معه فجاز وظلم غيره . وحاف عليه : ظلمه وجار عليه .
(45) الأثر : 1673 - هو من تتمة الأثر السالف : 1646 ، ويرجع الضمير في قوله : "وخاصموه به أيضًا - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اليهود ، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك .
(46) كان في المطبوعة هنا : "وقالوا : إن قال لنا قائل . . " . والضمير في"قالوا" ، لا يعود إلى مذكورين قبل . وكأن الناسخ تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر ، فحذف ما جرى عليه في تفسيره من قوله"قال أبو جعفر
الطبري



 

رد مع اقتباس