عرض مشاركة واحدة
قديم 23 Sep 2014, 05:39 PM   #4
بالقرآن نرتقي
مشرفة قروب ـ رياحين الإخاء جزاها الله تعالى خيرا


الصورة الرمزية بالقرآن نرتقي
بالقرآن نرتقي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8317
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Dec 2023 (11:50 PM)
 المشاركات : 3,065 [ + ]
 التقييم :  18
 مزاجي
لوني المفضل : Cadetblue
رد: أحــكام مجاوزة الميـقات



يتبع .. أحــكام مجازوة الميقات




المبحث الثالث: تجاوز الميقات بغير إحرام بنية العود إليه:
نقل السرخسي والكاساني والبابرتي الاتفاق على أن من عاد إلى الميقات قبل الإحرام ثم أحرم منه فإن الدم يسقط عنه[93]، وذكر ابن قدامة أنه لا يعلم خلافاً في ذلك[94].
واختلفوا في حكم مجاوزة الميقات بغير إحرام بنية العود على قولين:
القول الأول:
أن المجاوزة بنية العود جائزة ولا إثم عليه في ذلك، وهو مذهب الشافعية[95]، ورجحه ابن عثيمين[96].
واستدلوا على الجواز بأنه رجع وأحرم من الميقات الذي أمر به فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه[97].
ويمكن أن يناقش:
بأن الواجب هو الإحرام عند المرور بالميقات وعدم مجاوزته إلا محرما، لأنها حدود نصب الشارع الإحرام منها ومنع المجاوزة.
ويجاب عنه:
بأنها وضعت لابتداء الإحرام منها، وهذا رجع وابتدأ الإحرام فكأن مروره لم يكن.
القول الثاني:
أن من تجاوز بغير إحرام أساء ولو كان بنية العود إليه.
وهو وجه عند الشافعية[98].
واستدلوا على المنع بعموم أحاديث المواقيت وأنها حدود وضعت تعظيماً للبيت ومنع من تجاوزها إلا بإحرام، وقد حصلت الإساءة بمجاوزتها[99].
ويمكن أن يناقش:
بأن المنع متجه للإحرام بعد المجاوزة، أما من رجع وابتدأ الإحرام منه فقد حصل منه التعظيم للحدود ولم يفرط فيها.
الترجيح:
يظهر لي القول بجواز المجاوزة بنية العود، لأنه غير مريد للنسك الآن، ولأن مقصود الميقات حصول الإحرام منه، وهو سيرجع ويحرم منه.
مسألة: لو تجاوزه بنية العود فهل له أن يرجع إلى ميقات أقرب؟ هذه المسألة مبنية على (حكم مجاوزة الميقات إلى ميقات آخر) وسبق الكلام عليها.
فائدة:
من تجاوز بغير نية العود ولم يستطع العود لعذر كمرض أو خوف فوات الحج أحرم من موضعه ووجب عليه الدم، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً عند من أوجب الإحرام من الميقات[100].
المبحث الرابع: تجاوز الميقات لعدم حمل التصريح أو لعدم وجود ملابس الإحرام.
يجب على من مر بالميقات أن يحرم منه ولو كان يعلم أنه سيلزم بلبس المخيط، وكذلك من كان في

الطائرة أو السيارة وحاذى الميقات وليس معه إحرام فينوي الدخول في النسك وهو في ثيابه، وينزع ما

على رأسه، إلى أن يجد إحراما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ)

[101]، ولأن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم

من جنس فعل المنهي عنه، والمثوبة على أداء الواجبات أعظم من المثوبة على ترك المحرمات،

والعقوبة على ترك الواجبات أعظم من العقوبة على فعل المحرمات [102].

المبحث الخامس: من جاوز الميقات ناسيا أو جاهلا.
مذهب الأئمة الأربعة أن من جاوز الميقات جاهلاً أو ناسياً عليه الرجوع إليه، فإن لم يرجع لزمه الدم،
ولا فرق في لزوم الدم لمن أحرم بعد الميقات بين من كان عامداً عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، لكن يفترقون
في الإثم، فلا إثم على الناسي والجاهل[103].
لأنه من باب المأمور به، والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا[104]، ولأن المأمورات أمور

إيجابية لا بد أن تكون[105]، ولا تزول مفسدة تركها بالنسيان، إذْ يمكن تداركها وإزالة هذه المفسدة

بقضائها[106]
المبحث السادس: ميقات منهم دون المواقيت:
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة[107] إلى أن من كان مسكنه دون المواقيت فإنه يحرم
من بيته أو مسجده، وليس له أن يتجاوز القرية التي هو فيها من غير إحرام، قال ابن قدامة: (هذا قول أكثر أهل العلم)[
108].
فإن أحرم خارجها وهو ناو النسك عند خروجه فعليه دم عندهم.
واستدلوا بحديث ابن عباس: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ)، وقد أنشأ النية في بيته أو قريته فيلزمه الإحرام منها[109].
وذهب الحنفية إلى أن له الإحرام في جميع الحل إلى حدود الحرم، واستدلوا على ذلك بأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم في حقه كالميقات في حق الأفقي[110].
ونوقش: بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، فإنه أوجب الإحرام من حيث أنشأ، وفي الرواية الأخرى: (فَمَنْ

كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ)، فإذا جاوز محلة أهله فقد جاوز ميقاته، فهو كحال الأفقي إذا جاوز

الميقات الذي حدد له.
[93] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (4/170)، العناية (3/110).



[94] المغني (5/69)، وينظر: مواهب الجليل (3/432)، القوانين الفقهية (ص241)، هداية السالك (2/593)، المجموع (3/42)، وذكر المرداوي أنه حكي وجه عند الحنابلة بأن عليه الدم بسبب المجاوزة.



[95] ينظر: البيان للعمراني (4/114)، أسنى المطالب (1/ 460)، تحفة المحتاج (4/ 38)، نهاية المحتاج (3/262). ويظهر لي من سياقات قول الأئمة الثلاثة أنهم يقولون بهذا القول. ينظر: البحر الرائق (3/150)، مواهب الجليل (3/432)، المغني (5/69).



[96] لقاء الباب المفتوح (93/ 27، بترقيم الشاملة آليا).



[97] ينظر: المغني (5/69).



[98] ينظر: المجموع (7/207)، تحفة المحتاج (4/ 38)، وقد جمع الأذرعي بين قول من قال: لا تحرم المجاوزة بنية العود، وإطلاق بعض الأصحاب حرمتها، فيحمل الأول على ما إذا عاد بالفعل بعد أن جاوز بنية العود، ويحمل الثاني على ما إذا لم يعد. حاشية الجمل على شرح المنهج (2/ 405).



[99] ينظر: المجموع (7/207).



[100] المغني (5/73)، وينظر: هداية السالك (2/593)، نهاية المحتاج (3/261)، وقال: ويأثم بالمجاوزة ولا يأثم بترك الرجوع.



[101] أخرجه البخاري (3/ 16)، ومسلم (2/ 835).



[102] ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 85)، فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 233)، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (ص: 407).



[103] ينظر: البحر الرائق (3/ 19)، حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 543)، المدونة (1/ 402)، التهذيب في اختصار المدونة (1/ 508)، التاج والإكليل (4/ 58)، هداية السالك (2/593)، المجموع شرح المهذب (7/ 207)، المغني لابن قدامة (3/ 252)، الفروع وتصحيح الفروع (5/ 313) الإشراف لابن المنذر (3/180).



[104] المجموع شرح المهذب (7/ 207).



[105] ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 203).



[106] ينظر: شرح بلوغ المرام لابن عثيمين (كتاب الصيام).



[107] ينظر: مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 194، 201)، المغني (3/ 248)، مطالب أولي النهى (2 / 297).



[108] المغني (3/ 248).



[109] ينظر: المجموع (7 / 194، 201).



[110] ينظر: الهداية (2 / 134)، تبيين الحقائق (2/ 8)،.
المبحث السابع: ميقات أهل مكة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن أهل مكة ومن كان نازلا فيها يهلون منها للحج، وليس لهم أن يذهبوا ليحرموا خارجها، على تفصيل عندهم في الأفضل في مكان الإحرام، وخلاف في لزوم الدم لو أحرم خارج الحرم[111].
أما العمرة فيجب عليه أن يخرج للحل ليحرم منه، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وقال ابن قدامة: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافا.
واستدلوا بأمر النبي عبد الرحمن بن أبي بكر (أن يخرج بعائشة رضي الله عنهما إلى التنعيم لتحرم

منه)[112]، ولم يكن في ذلك من فائدة مع كونها ستتأخر عليهم إلا أن الإحرام للعمرة يجب أن يكون من الحل[113].
الفصل الثاني: مجاوزة الميقات لغير مريد النسك.
المبحث الأول: المجاوزة لمن يريد دخول مكة.
من جاوز الميقات لا يريد دخول الحرم ولا يقصد النسك فلا يجب عليه الإحرام بغير خلاف كما ذكر ابن قدامة[114].
واختلف أهل العلم فيمن قصد مكة ولم يرد النسك على قولين:
القول الأول:
لا تجوز مجاوزة الميقات إلا بإحرام.
وهو مذهب الحنفية[115]، والمالكية[116]، والحنابلة[117]، وقول عند الشافعية[118].
وجميعهم استثنوا من يتكرر دخوله كالحطاب وساعي البريد ما عدا الحنفية.
واستدلوا على الوجوب بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجاوز الموقت إلا بإحرام)[119].
ونوقش:
بضعف الحديث، ولو صح فهو محمول على من أراد النسك.
الدليل الثاني:
ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يجاوز أحد ذات عرق حتى يحرم)[120].
ونوقش:
بأنه عارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا[121]، وليس أحدهما حجة على الآخر.
الدليل الثالث:
حديث: (إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)[122].
فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه[123].
ونوقش:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام وإنما هو صريح في القتال[124].
الدليل الرابع:
أن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة , وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء[125].
ونوقش:
بأنا لا نسلم بأن وجوب الإحرام لإظهار شرف البقعة، بل هو للنسك الذي محله تلك البقعة[126].
القول الثاني:
أن الإحرام لدخول مكة مستحب ولا يجب.
وهو الصحيح من مذهب الشافعية[127]، ورواية عن أحمد[128]، وبه قال البخاري[129]، وابن حزم[130] ، وابن القيم[131].
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)، وفي رواية: (ممن أراد الحج أو العمرة).
قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما، وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام، وله تجاوزها غير محرم[132].
ونوقش:
بأن في عموم المفهوم نظر في الأصول، وعلى تقدير أن يكون له عموم، فإذا دل دليل على وجوب

الإحرام لدخول مكة، وكان ظاهر الدلالة لفظا: قدم على هذا المفهوم؛ لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام

بالنسبة إلى هذه الأماكن، ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة. والعموم إذا لم يقصد: فدلالته ليست

بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ[133].
ويجاب عنه:
بأن الحكم جاء بالنسبة إلى هذه الأماكن وإلى الجهة التي يراد قصدها، ولم يدل دليل صحيح على وجوب الإحرام لدخول مكة.
الدليل الثاني:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر[134].
فقد دخلها صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غير إحرام فدل على عدم وجوبه.
ونوقش:
أن قوله: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) دل على أنها لا تحل لأحد بعده، فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وأجيب عنه:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي أنه استثناء للإحرام[135].
الدليل الثالث:
ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (كان يدخل غلمانه الحرم بغير إحرام)[136]. و (أقبل من مكة على المدينة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام)[137].
ونوقش:
بأنه فعل صحابي خالفه غيره فليس بحجة.
الدليل الرابع:
أنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة[138].
الدليل الخامس:
أنها تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد[139].
ويظهر رجحان القول بعدم وجوب الإحرام، لأن الأصل براءة الذمة، ولقوة أدلتهم في ذلك.
المبحث الثاني: من جاوز الميقات لعمل أو حاجة هل يلزمه الإحرام؟
المسألة على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن لا يقصد النسك مطلقا، فهذا لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد دخول مكة، ثم إذا عنَّ له أن يعتمر أو يحج بعد ذلك أحرم من موضعه الذي هو فيه، وهو مذهب الحنفية[140]، والمالكية[141]، والشافعية[142]، والحنابلة[143].
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فمن حيث أنشأ).
فيؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ولا يجب عليه الرجوع[144].
الحالة الثانية: أن يجاوز لعمل أو حاجة وهو لا يعلم هل يوافق مرجعه ومديره على حجه أم لا؟ فلا يلزمه الإحرام، لأنه لم يتحقق العزم والإرادة عنده، ولأنه قد لا يؤذن له[145]، وإن كان متردد النية هل يحج أم لا، فهذا التردد إن كان مستوي الطرفين لم يترجح عنده إرادة الحج من عدمه فلا يلزمه الإحرام، لعدم تحقق القصد منه والإرادة للنسك[146].
الحالة الثالثة: أن يجاوز لعمل أو حاجة وفي نيته النسك بعد الإنتهاء من عمله، كمن يذهب لجدة لعمل أو سياحة وفي نيته الحج بعد ذلك، فهل يلزمه الإحرام من الميقات؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه الإحرام من الميقات ولو كانت مدة عمله طويلة، كشهر ونحوه، أو يرجع للميقات بعد فراغه من عمله فيحرم منه، وهو قول ابن حجر الهيتمي[147] الشافعي، وظاهر قول المرغيناني[148] الحنفي، وظاهر فتاوى الشيخ ابن عثيمين[149] واللجنة الدائمة[150].
ودليل هذا القول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: (ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أو العمرة)، فهذا مريد للحج ولو تخلل سفره عمل فيبقى أن الإرادة موجودة[151].
ويناقش:
بأن سفره وقصده هو للعمل، ونية الحج وإرادته تابعة، وهو لا يريد الآن حجا ولا عمرة وإنما يريد مكان عمله وقضاء شغله.
وأجيب عنه:
بأن الإرادة وإن كانت تابعة فيبقى أنها موجودة، والحديث علق الإحرام بالإرادة وقد وجدت فيجب أن يثبت حكم لازمها وهو الإحرام.
ويجاب عنه:
بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وهو لم يحركه من بلده إلا قصد العمل، فالنية فيه هي الأصل، وهي المقصودة الغالبة حال المجاوزة فيكون الحكم لها.
القول الثاني: ينظر إلى الباعث له على السفر، فإن كان الباعث له على سفره العمل الذي قصده، أو المؤتمر الذي سيحضره، ونية العمرة تبع فلا يلزمه الإحرام، وإذا أراد النسك أحرم من موضعه.
أما إن كان الباعث على السفر النسك، وأراد أن يقضي شغله على طريقه فيلزمه الإحرام من الميقات، ولو كان سيبقى في شغله أياما، أو يتجاوز غير محرم وإذا أراد الإحرام رجع للميقات وأحرم منه.
وبه قال بعض الحنفية[152]، والشهاب الرملي والشرواني([153] الشافعيين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي[154].
واستدلوا بدليل وتعليلين:
أما الدليل: فهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ

الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي» قَالَ: فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْرَمُوا

كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ[155].
وجه الاستدلال: أن أبا قتادة[156] ومن معه رضي الله عنهم لما خرجوا إلى الساحل لم يحرموا من ذي الحليفة مع وجود نية النسك، وإنما أحرموا لما فرغوا من عملهم وتوجهوا قِبل النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على اعتبار الباعث على السفر، وأنه يحرم من حين انتهاء عمله.
ويجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا كان قبل فرض المواقيت، حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل: في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج[157].
الوجه الثاني: أنهم لم يحرموا خوف لقاء العدو الذي أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لأجله، فرخص في ترك الإحرام للحاجة لذلك فمن العسير أن يقاتلوا بإحرامهم.
ويجاب عن الوجه الأول: بأن ذلك لم يثبت، ولم يدل دليل صريح على أنها لم تفرض إلا في السنة العاشرة، وقد أحرم النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة من المدينة كما هو ظاهر الأحاديث، وعلى فرض أنها لم توقت إلا في السنة العاشرة فإحرام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة دليل على أنها ميقات من أراد النسك من قبل.
ويجاب عن الوجه الثاني: أنه إذا جاز عند لقاء العدو للحاجة مع أن اللقاء كان مظنونا فالحاجة موجودة أيضاً فيمن سافر لأجل عمل، وفيه من الحرج والمشقة عليه أن يبقى أياما في عمله بإحرامه.
وأما التعليل الذي استدلوا به: فهو أنه عند سفره ومجاوزته الميقات غير مريد للنسك، وإنما يريد ذلك الموضع الذي فيه عمله، فهو الذي نهزه وبعثه لأجل السفر، فكيف نوجب عليه الإحرام ونية النسك ليست حاضرة عنده؟
ويجاب عنه: بأنه وإن كان يقصد موضع عمله عند المجاوزة إلا أن نية النسك موجودة، فهو ناو أداءه بعده، والحديث علق الوجوب بمطلق الإرادة (ممن أراد الحج أو العمرة)، وهو في حقيقته مريد لذلك ولو تخلله شغل آخر.
ونوقش: بأنه (يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً)، و (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)، والإرادة هنا حقيقة لا ظهور لها في قصده، بل قصده وسفره قِبل عمله، ونية النسك بعده تابعة لا أصلية.
التعليل الثاني: أن إلزامه بالإحرام وهو غير قاصد للنسك حرج لا تأتي الشريعة بمثله[158]،
وفيه من المشقة عليه والتنفير عن أداء النسك لصعوبة وعسر الجمع بينهما عليه.
ويجاب عنه: بأن الحج والعمرة يوجد في غالبهما المشقة، والأجر على قدر النصب.
ونوقش: بأن وجود المشقة في بعض أعمالها لا يلزم تقصده أو الإلزام به في أحوال أخرى دلت القرائن على التيسير فيها.
وفي ختام هذه المسألة يظهر لي قوة كلا القولين، والأول منهما أحوط، وإن كانت النفس تميل لقوة القول الثاني ورجحانه.
[111] ينظر: تبيين الحقائق (2/ 8)مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 193)، مطالب أولي النهى (2 / 297)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[112] أخرجه البخاري (1/ 70)، ومسلم (2/ 870).



[113] المغني (3/ 246)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[114] المغني (5/72)، وينظر: حاشية ابن عابدين (3/552).



[115] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (1/167)، واستثنى الحنفية من منزله دون الميقات دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكا.



[116] ينظر: مواهب الجليل (3/231).



[117] ينظر: المغني (5/72).



[118] ينظر: المجموع (7/11)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 130).



[119] رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: وفيه خصيف، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. مجمع الزوائد (3/ 216)، وقال ابن عبدالهادي: ليس له إسناد، أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم. رسالة لطيفة (ص45).



[120] أخرجه ابن أبي شيبة (4/509)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/129).



[121] ينظر: المجموع (7/16).



[122] أخرجه البخاري (3/ 14) ومسلم (2/ 989).



[123] ينظر: المبسوط (1/167).



[124] ينظر: المجموع (7/16).



[125] ينظر: المبسوط (1/167).



[126] ينظر: أحكام الحرم المكي (ص333).



[127] ينظر: المجموع (7/11)، مغني المحتاج (1/474).



[128] ينظر: المغني (5/72)، الإنصاف (8/117)، قال ابن مفلح: وهي أظهر للخبر.



[129] حيث بوب: (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام). ثم قال: ودخل ابن عمر بغير إحرام، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة. ولم يذكر للحطابين وغيرهم. ينظر: شرح القسطلاني لشرح صحيح البخاري (3/ 316)



[130] المحلى (7/266).



[131] زاد المعاد (3/429).



[132] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[133] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[134] أخرجه البخاري (3/ 17).



[135] ينظر: المجموع (7/16).



[136] أخرجه ابن أبي شيبة (4/363)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/420).



[137] أخرجه مالك (1272)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: الأثر صحيح. (1/421).



[138] سبل السلام (1/ 612).



[139] ينظر: المجموع (7/16).



[140] ينظر: الاختيار (1/142) إلا أنه يحرم عندهم من موضعه أو ما شاء من الحل ما لم يدخل الحرم.



[141] ينظر: المدونة (1/402)، شرح الخرشي (2/304).



[142] ينظر: هداية السالك (2/598)، فتح الباري (3/452).



[143] ينظر: المغني (5/70)، الإنصاف (8/123)، وعن أحمد رواية أنه يرجع للميقات، وحملها ابن قدامة على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام.



[144] فتح الباري (3/452).



[145] إلا إذا كان يعلم أنه سيسمح له فيلزمه الإحرام، وبه أفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين. ينظر: مجموع فتاوى ابن باز (17/53)، لقاء الباب المفتوح (18/178)، و (23/14). ومجموع فتاوى ابن عثيمين (12/367)، و (3/376).



[146] ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 223)، لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (24/65)، ومجموع فتاويه (21/326)، المسائل المشكلة في الحج د.عبد الكريم الخضير، منشورة في موقعه.



[147] تحفة المحتاج (4/43)، الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 124)، وينظر: إعانة الطالبين (2/ 344).



[148] ينظر: الهداية (1/172)، البناية شرح الهداية (4/420،421)



[149] له رحمه الله مجموعة فتاوى لم يستفصل فيها من السائل عن الباعث، وإنما أوجب عليه الإحرام من الميقات أو الرجوع إليه، ينظر مثلا: اللقاء الشهري (41/ 10، بترقيم الشاملة آليا)، و (36/ 17)، و (56/14)، و دروس للشيخ العثيمين فرغها موقع الشبكة الإسلامية (11/ 4، بترقيم الشاملة آليا).



وله فتاوى ذكر فيها الباعث، فإما أن يحمل المطلق على المقيد، أو يكون للشيخ فيها قولان، أو تحمل على من كان له أهل داخل المواقيت أو قدم لعمل دائم، كما هو حال بعضها، ولعلي أورد نصها ليقف القارئ عليها:







سئل رحمه الله: عقدت النية وأنا في حفر الباطن أن آخذ العمرة, وحينما ذهبت في الإجازة أحرمت من منزل الأهل وأخذت العمرة, هل ينبغي عليّ أن أحرم من ميقات الطائف أم من المنزل, أفيدوني حفظكم الله؟ الشيخ: لكن هل نيتك عندما أتيت من حفر الباطن الذهاب إلى أهلك، أو نويت العمرة؟ السائل: الذهاب إلى أهلي وعمرة.



الشيخ: لكن أصل مجيئك في الإجازة؟ السائل: أصل مجيئي للأهل.



الشيخ: إذا كان أصل المجيء إلى الأهل فاذهب إلى الأهل بدون إحرام، ومتى أردت أن تحرم أحرم من جدة , وأما إذا كان ما جئت في هذا الوقت إلا للعمرة لابد تأتي الميقات.



السائل: أنا نويت في الأصل الزيارة للأهل بعدها أحرم وأطلع عمرة.



الشيخ: نعم. لأن هناك فرق بين الذي من أهل جدة وأتى يريد مسكنه, هذا نقول: إذا أردت العمرة أحرم من مكانك من جدة , أو إنسان -مثلاً- من أهل القصيم يريد أن يذهب إلى جدة وإلى مكة هذا نقول: لابد أن تحرم من الميقات.



فأنت الآن حسب ما فهمت من كلامك أنك تريد أهلك بالقصد الأول, فنقول: اذهب إلى أهلك، وإذا أردت الإحرام أحرم من مكانك. لقاء الباب المفتوح (108/ 20، بترقيم الشاملة آليا).



وقال رحمه الله: الميزان في هذا هو الإرادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت وقال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) أي: من غير أهل البلاد التي وقتت لهم ممن أراد الحج والعمرة، فمن أراد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات، ثم بعد ذلك يقضي غرضه الذي أراد، ولكن من كان أهله في جدة -مثلاً- وسافر من البلد التي سافر منها إلى جدة لأهله، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فلا يلزمه الإحرام؛ لأن سفرته هذه في الواقع سفرة إلى أهله. وأما من أراد مكة ولكنه قال: أقضي شغلي أولاً ثم أحرم من المكان الذي قضيت به الشغل؛ فإن هذا لا يجوز ، فالمدار كله على الإرادة .



أما القادم من مصر إلى المملكة فإننا -أيضاً- نسأل عن إرادته، إذا كان يريد أن يقدم للعمل الذي يعمله في المملكة، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فهذا لا يلزمه الإحرام، وأما إذا كانت نيته في هذه السفرة يريد الاعتمار ويريد الذهاب للشغل فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات. لقاء الباب المفتوح (20/ 14، بترقيم الشاملة آليا).



[150] فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99)، فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (11/ 122)، فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 19).



[151] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99).



[152] قال ابن عابدين: (قوله: اعتبار الإرادة عند المجاوزة) أي أن الآفاقي الذي جاوز وقته تعتبر إرادته عند المجاوزة، فإن كان عند قصد المجاوزة أراد دخول مكة لحج أو غيره لزمه الإحرام من الميقات، وإلا بأن أراد دخول مكان في الحل لحاجة فلا شيء عليه. واستظهر في البحر اعتبار الإرادة عند الخروج من بيته. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 580).



قال في شرح اللباب: والوجه في الجملة أن يقصد البستان قصدا أوليا، ولا يضره دخول الحرم بعده قصدا ضمنيا أو عارضيا، كما إذا قصد هندي جدة لبيع وشراء أولا ويكون في خاطره أنه إذا فرغ منه أن يدخل مكة ثانيا، بخلاف من جاء من الهند بقصد الحج أولا ويقصد دخول جدة تبعا ولو قصد بيعا وشراء. حاشية منحة الخالق على البحر الرائق (3/ 53).



لا يجوز له مجاوزة الميقات بلا إحرام ما لم يكن أراد دخول مكان في الحل لحاجة، وإلا فكل آفاقي يريد دخول مكة لا بد أن يريد دخول الحل وقدمنا أن التقييد بالحاجة احتراز عما لو كان عند المجاوزة يريد دخول مكة. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



وقال في الكافي: لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهو لا يريد دخولها، وإنما يريد البستان وهو غير مستحق التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصد دخوله. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



[153] سئل عمن خرج من بلده مريدا للنسك مع نية الإقامة ببندر جدة شهرا أو نحوه للبيع والشراء فهل تباح له مجاوزة الميقات من غير إحرام لتخلل نية الإقامة بجدة أم لا تباح له المجاوزة؟ فأجاب: من بلغ ميقاتا مريدا نسكا لم تجز له مجاوزته بغير إحرام وإن قصد الإقامة ببندر بعد الميقات شهرا مثلا للبيع ونحوه إلا أن يقصد الإقامة بالبندر المذكور قبل الإحرام. فتاوى الرملي (2/ 81).



قال باعشن عن السيد أحمد جمل الليل في جواب سؤال في ذلك: نعم يبقى الكلام في محل إنشاء الإحرام بعد ذلك فعلى ما ذهب إليه الجمهور يجب كونه من الميقات أو من مثل مسافته وعلى ما ذهب إليه الشهاب الرملي يجوز إنشاؤه من ذلك الموضع الذي أقام به شهرا أو نحوه اهـ ولا يخفى أن ما مر عن ابن الجمال الموافق لما قاله الشارح فيه حرج شديد لا سيما فيما إذا نوى الإقامة في نحو الصفراء نحو سنة. حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43)، وينظر: بشرى الكريم بشرح مسائل التعليم (ص: 612)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 119).



[154] قال في فتوى له رحمه الله: إذا كان قصده الأول زيارة أهله بجدة والعمرة تبع جاز له أن يتجاوز الميقات حلالا، ثم يحرم من مكانه إذا هو نوى العمرة. فتاوى العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص: 143)



[155] أخرجه مسلم (2/ 853)، ورواية البخاري: (فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم)، صحيح البخاري (3/ 13)، فتح الباري لابن حجر (4/ 29).



[156] تتبعت طرق الحديث فلم أجد في شيء منها أنه أحرم رضي الله عنه، فقد يكون لم يرد النسك، والاستدلال هنا بفعل أصحابه.



[157] ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 389)، مفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام (1/ 59).



[158] ينظر: حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43،44)



المصدر : مجلة البيان
































يتبع .. أحــكام مجازوة الميقات




المبحث الثالث: تجاوز الميقات بغير إحرام بنية العود إليه:
نقل السرخسي والكاساني والبابرتي الاتفاق على أن من عاد إلى الميقات قبل الإحرام ثم أحرم منه فإن الدم يسقط عنه[93]، وذكر ابن قدامة أنه لا يعلم خلافاً في ذلك[94].
واختلفوا في حكم مجاوزة الميقات بغير إحرام بنية العود على قولين:
القول الأول:
أن المجاوزة بنية العود جائزة ولا إثم عليه في ذلك، وهو مذهب الشافعية[95]، ورجحه ابن عثيمين[96].
واستدلوا على الجواز بأنه رجع وأحرم من الميقات الذي أمر به فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه[97].
ويمكن أن يناقش:
بأن الواجب هو الإحرام عند المرور بالميقات وعدم مجاوزته إلا محرما، لأنها حدود نصب الشارع الإحرام منها ومنع المجاوزة.
ويجاب عنه:
بأنها وضعت لابتداء الإحرام منها، وهذا رجع وابتدأ الإحرام فكأن مروره لم يكن.
القول الثاني:
أن من تجاوز بغير إحرام أساء ولو كان بنية العود إليه.
وهو وجه عند الشافعية[98].
واستدلوا على المنع بعموم أحاديث المواقيت وأنها حدود وضعت تعظيماً للبيت ومنع من تجاوزها إلا بإحرام، وقد حصلت الإساءة بمجاوزتها[99].
ويمكن أن يناقش:
بأن المنع متجه للإحرام بعد المجاوزة، أما من رجع وابتدأ الإحرام منه فقد حصل منه التعظيم للحدود ولم يفرط فيها.
الترجيح:
يظهر لي القول بجواز المجاوزة بنية العود، لأنه غير مريد للنسك الآن، ولأن مقصود الميقات حصول الإحرام منه، وهو سيرجع ويحرم منه.
مسألة: لو تجاوزه بنية العود فهل له أن يرجع إلى ميقات أقرب؟ هذه المسألة مبنية على (حكم مجاوزة الميقات إلى ميقات آخر) وسبق الكلام عليها.
فائدة:
من تجاوز بغير نية العود ولم يستطع العود لعذر كمرض أو خوف فوات الحج أحرم من موضعه ووجب عليه الدم، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً عند من أوجب الإحرام من الميقات[100].
المبحث الرابع: تجاوز الميقات لعدم حمل التصريح أو لعدم وجود ملابس الإحرام.
يجب على من مر بالميقات أن يحرم منه ولو كان يعلم أنه سيلزم بلبس المخيط، وكذلك من كان في

الطائرة أو السيارة وحاذى الميقات وليس معه إحرام فينوي الدخول في النسك وهو في ثيابه، وينزع ما

على رأسه، إلى أن يجد إحراما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ)

[101]، ولأن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم

من جنس فعل المنهي عنه، والمثوبة على أداء الواجبات أعظم من المثوبة على ترك المحرمات،

والعقوبة على ترك الواجبات أعظم من العقوبة على فعل المحرمات [102].

المبحث الخامس: من جاوز الميقات ناسيا أو جاهلا.
مذهب الأئمة الأربعة أن من جاوز الميقات جاهلاً أو ناسياً عليه الرجوع إليه، فإن لم يرجع لزمه الدم،
ولا فرق في لزوم الدم لمن أحرم بعد الميقات بين من كان عامداً عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، لكن يفترقون
في الإثم، فلا إثم على الناسي والجاهل[103].
لأنه من باب المأمور به، والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا[104]، ولأن المأمورات أمور

إيجابية لا بد أن تكون[105]، ولا تزول مفسدة تركها بالنسيان، إذْ يمكن تداركها وإزالة هذه المفسدة

بقضائها[106]
المبحث السادس: ميقات منهم دون المواقيت:
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة[107] إلى أن من كان مسكنه دون المواقيت فإنه يحرم
من بيته أو مسجده، وليس له أن يتجاوز القرية التي هو فيها من غير إحرام، قال ابن قدامة: (هذا قول أكثر أهل العلم)[
108].
فإن أحرم خارجها وهو ناو النسك عند خروجه فعليه دم عندهم.
واستدلوا بحديث ابن عباس: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ)، وقد أنشأ النية في بيته أو قريته فيلزمه الإحرام منها[109].
وذهب الحنفية إلى أن له الإحرام في جميع الحل إلى حدود الحرم، واستدلوا على ذلك بأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم في حقه كالميقات في حق الأفقي[110].
ونوقش: بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، فإنه أوجب الإحرام من حيث أنشأ، وفي الرواية الأخرى: (فَمَنْ

كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ)، فإذا جاوز محلة أهله فقد جاوز ميقاته، فهو كحال الأفقي إذا جاوز

الميقات الذي حدد له.
[93] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (4/170)، العناية (3/110).



[94] المغني (5/69)، وينظر: مواهب الجليل (3/432)، القوانين الفقهية (ص241)، هداية السالك (2/593)، المجموع (3/42)، وذكر المرداوي أنه حكي وجه عند الحنابلة بأن عليه الدم بسبب المجاوزة.



[95] ينظر: البيان للعمراني (4/114)، أسنى المطالب (1/ 460)، تحفة المحتاج (4/ 38)، نهاية المحتاج (3/262). ويظهر لي من سياقات قول الأئمة الثلاثة أنهم يقولون بهذا القول. ينظر: البحر الرائق (3/150)، مواهب الجليل (3/432)، المغني (5/69).



[96] لقاء الباب المفتوح (93/ 27، بترقيم الشاملة آليا).



[97] ينظر: المغني (5/69).



[98] ينظر: المجموع (7/207)، تحفة المحتاج (4/ 38)، وقد جمع الأذرعي بين قول من قال: لا تحرم المجاوزة بنية العود، وإطلاق بعض الأصحاب حرمتها، فيحمل الأول على ما إذا عاد بالفعل بعد أن جاوز بنية العود، ويحمل الثاني على ما إذا لم يعد. حاشية الجمل على شرح المنهج (2/ 405).



[99] ينظر: المجموع (7/207).



[100] المغني (5/73)، وينظر: هداية السالك (2/593)، نهاية المحتاج (3/261)، وقال: ويأثم بالمجاوزة ولا يأثم بترك الرجوع.



[101] أخرجه البخاري (3/ 16)، ومسلم (2/ 835).



[102] ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 85)، فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 233)، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (ص: 407).



[103] ينظر: البحر الرائق (3/ 19)، حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 543)، المدونة (1/ 402)، التهذيب في اختصار المدونة (1/ 508)، التاج والإكليل (4/ 58)، هداية السالك (2/593)، المجموع شرح المهذب (7/ 207)، المغني لابن قدامة (3/ 252)، الفروع وتصحيح الفروع (5/ 313) الإشراف لابن المنذر (3/180).



[104] المجموع شرح المهذب (7/ 207).



[105] ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 203).



[106] ينظر: شرح بلوغ المرام لابن عثيمين (كتاب الصيام).



[107] ينظر: مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 194، 201)، المغني (3/ 248)، مطالب أولي النهى (2 / 297).



[108] المغني (3/ 248).



[109] ينظر: المجموع (7 / 194، 201).



[110] ينظر: الهداية (2 / 134)، تبيين الحقائق (2/ 8)،.
المبحث السابع: ميقات أهل مكة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن أهل مكة ومن كان نازلا فيها يهلون منها للحج، وليس لهم أن يذهبوا ليحرموا خارجها، على تفصيل عندهم في الأفضل في مكان الإحرام، وخلاف في لزوم الدم لو أحرم خارج الحرم[111].
أما العمرة فيجب عليه أن يخرج للحل ليحرم منه، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وقال ابن قدامة: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافا.
واستدلوا بأمر النبي عبد الرحمن بن أبي بكر (أن يخرج بعائشة رضي الله عنهما إلى التنعيم لتحرم

منه)[112]، ولم يكن في ذلك من فائدة مع كونها ستتأخر عليهم إلا أن الإحرام للعمرة يجب أن يكون من الحل[113].
الفصل الثاني: مجاوزة الميقات لغير مريد النسك.
المبحث الأول: المجاوزة لمن يريد دخول مكة.
من جاوز الميقات لا يريد دخول الحرم ولا يقصد النسك فلا يجب عليه الإحرام بغير خلاف كما ذكر ابن قدامة[114].
واختلف أهل العلم فيمن قصد مكة ولم يرد النسك على قولين:
القول الأول:
لا تجوز مجاوزة الميقات إلا بإحرام.
وهو مذهب الحنفية[115]، والمالكية[116]، والحنابلة[117]، وقول عند الشافعية[118].
وجميعهم استثنوا من يتكرر دخوله كالحطاب وساعي البريد ما عدا الحنفية.
واستدلوا على الوجوب بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجاوز الموقت إلا بإحرام)[119].
ونوقش:
بضعف الحديث، ولو صح فهو محمول على من أراد النسك.
الدليل الثاني:
ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يجاوز أحد ذات عرق حتى يحرم)[120].
ونوقش:
بأنه عارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا[121]، وليس أحدهما حجة على الآخر.
الدليل الثالث:
حديث: (إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)[122].
فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه[123].
ونوقش:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام وإنما هو صريح في القتال[124].
الدليل الرابع:
أن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة , وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء[125].
ونوقش:
بأنا لا نسلم بأن وجوب الإحرام لإظهار شرف البقعة، بل هو للنسك الذي محله تلك البقعة[126].
القول الثاني:
أن الإحرام لدخول مكة مستحب ولا يجب.
وهو الصحيح من مذهب الشافعية[127]، ورواية عن أحمد[128]، وبه قال البخاري[129]، وابن حزم[130] ، وابن القيم[131].
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)، وفي رواية: (ممن أراد الحج أو العمرة).
قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما، وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام، وله تجاوزها غير محرم[132].
ونوقش:
بأن في عموم المفهوم نظر في الأصول، وعلى تقدير أن يكون له عموم، فإذا دل دليل على وجوب

الإحرام لدخول مكة، وكان ظاهر الدلالة لفظا: قدم على هذا المفهوم؛ لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام

بالنسبة إلى هذه الأماكن، ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة. والعموم إذا لم يقصد: فدلالته ليست

بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ[133].
ويجاب عنه:
بأن الحكم جاء بالنسبة إلى هذه الأماكن وإلى الجهة التي يراد قصدها، ولم يدل دليل صحيح على وجوب الإحرام لدخول مكة.
الدليل الثاني:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر[134].
فقد دخلها صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غير إحرام فدل على عدم وجوبه.
ونوقش:
أن قوله: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) دل على أنها لا تحل لأحد بعده، فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وأجيب عنه:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي أنه استثناء للإحرام[135].
الدليل الثالث:
ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (كان يدخل غلمانه الحرم بغير إحرام)[136]. و (أقبل من مكة على المدينة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام)[137].
ونوقش:
بأنه فعل صحابي خالفه غيره فليس بحجة.
الدليل الرابع:
أنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة[138].
الدليل الخامس:
أنها تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد[139].
ويظهر رجحان القول بعدم وجوب الإحرام، لأن الأصل براءة الذمة، ولقوة أدلتهم في ذلك.
المبحث الثاني: من جاوز الميقات لعمل أو حاجة هل يلزمه الإحرام؟
المسألة على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن لا يقصد النسك مطلقا، فهذا لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد دخول مكة، ثم إذا عنَّ له أن يعتمر أو يحج بعد ذلك أحرم من موضعه الذي هو فيه، وهو مذهب الحنفية[140]، والمالكية[141]، والشافعية[142]، والحنابلة[143].
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فمن حيث أنشأ).
فيؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ولا يجب عليه الرجوع[144].
الحالة الثانية: أن يجاوز لعمل أو حاجة وهو لا يعلم هل يوافق مرجعه ومديره على حجه أم لا؟ فلا يلزمه الإحرام، لأنه لم يتحقق العزم والإرادة عنده، ولأنه قد لا يؤذن له[145]، وإن كان متردد النية هل يحج أم لا، فهذا التردد إن كان مستوي الطرفين لم يترجح عنده إرادة الحج من عدمه فلا يلزمه الإحرام، لعدم تحقق القصد منه والإرادة للنسك[146].
الحالة الثالثة: أن يجاوز لعمل أو حاجة وفي نيته النسك بعد الإنتهاء من عمله، كمن يذهب لجدة لعمل أو سياحة وفي نيته الحج بعد ذلك، فهل يلزمه الإحرام من الميقات؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه الإحرام من الميقات ولو كانت مدة عمله طويلة، كشهر ونحوه، أو يرجع للميقات بعد فراغه من عمله فيحرم منه، وهو قول ابن حجر الهيتمي[147] الشافعي، وظاهر قول المرغيناني[148] الحنفي، وظاهر فتاوى الشيخ ابن عثيمين[149] واللجنة الدائمة[150].
ودليل هذا القول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: (ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أو العمرة)، فهذا مريد للحج ولو تخلل سفره عمل فيبقى أن الإرادة موجودة[151].
ويناقش:
بأن سفره وقصده هو للعمل، ونية الحج وإرادته تابعة، وهو لا يريد الآن حجا ولا عمرة وإنما يريد مكان عمله وقضاء شغله.
وأجيب عنه:
بأن الإرادة وإن كانت تابعة فيبقى أنها موجودة، والحديث علق الإحرام بالإرادة وقد وجدت فيجب أن يثبت حكم لازمها وهو الإحرام.
ويجاب عنه:
بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وهو لم يحركه من بلده إلا قصد العمل، فالنية فيه هي الأصل، وهي المقصودة الغالبة حال المجاوزة فيكون الحكم لها.
القول الثاني: ينظر إلى الباعث له على السفر، فإن كان الباعث له على سفره العمل الذي قصده، أو المؤتمر الذي سيحضره، ونية العمرة تبع فلا يلزمه الإحرام، وإذا أراد النسك أحرم من موضعه.
أما إن كان الباعث على السفر النسك، وأراد أن يقضي شغله على طريقه فيلزمه الإحرام من الميقات، ولو كان سيبقى في شغله أياما، أو يتجاوز غير محرم وإذا أراد الإحرام رجع للميقات وأحرم منه.
وبه قال بعض الحنفية[152]، والشهاب الرملي والشرواني([153] الشافعيين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي[154].
واستدلوا بدليل وتعليلين:
أما الدليل: فهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ

الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي» قَالَ: فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْرَمُوا

كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ[155].
وجه الاستدلال: أن أبا قتادة[156] ومن معه رضي الله عنهم لما خرجوا إلى الساحل لم يحرموا من ذي الحليفة مع وجود نية النسك، وإنما أحرموا لما فرغوا من عملهم وتوجهوا قِبل النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على اعتبار الباعث على السفر، وأنه يحرم من حين انتهاء عمله.
ويجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا كان قبل فرض المواقيت، حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل: في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج[157].
الوجه الثاني: أنهم لم يحرموا خوف لقاء العدو الذي أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لأجله، فرخص في ترك الإحرام للحاجة لذلك فمن العسير أن يقاتلوا بإحرامهم.
ويجاب عن الوجه الأول: بأن ذلك لم يثبت، ولم يدل دليل صريح على أنها لم تفرض إلا في السنة العاشرة، وقد أحرم النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة من المدينة كما هو ظاهر الأحاديث، وعلى فرض أنها لم توقت إلا في السنة العاشرة فإحرام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة دليل على أنها ميقات من أراد النسك من قبل.
ويجاب عن الوجه الثاني: أنه إذا جاز عند لقاء العدو للحاجة مع أن اللقاء كان مظنونا فالحاجة موجودة أيضاً فيمن سافر لأجل عمل، وفيه من الحرج والمشقة عليه أن يبقى أياما في عمله بإحرامه.
وأما التعليل الذي استدلوا به: فهو أنه عند سفره ومجاوزته الميقات غير مريد للنسك، وإنما يريد ذلك الموضع الذي فيه عمله، فهو الذي نهزه وبعثه لأجل السفر، فكيف نوجب عليه الإحرام ونية النسك ليست حاضرة عنده؟
ويجاب عنه: بأنه وإن كان يقصد موضع عمله عند المجاوزة إلا أن نية النسك موجودة، فهو ناو أداءه بعده، والحديث علق الوجوب بمطلق الإرادة (ممن أراد الحج أو العمرة)، وهو في حقيقته مريد لذلك ولو تخلله شغل آخر.
ونوقش: بأنه (يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً)، و (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)، والإرادة هنا حقيقة لا ظهور لها في قصده، بل قصده وسفره قِبل عمله، ونية النسك بعده تابعة لا أصلية.
التعليل الثاني: أن إلزامه بالإحرام وهو غير قاصد للنسك حرج لا تأتي الشريعة بمثله[158]،
وفيه من المشقة عليه والتنفير عن أداء النسك لصعوبة وعسر الجمع بينهما عليه.
ويجاب عنه: بأن الحج والعمرة يوجد في غالبهما المشقة، والأجر على قدر النصب.
ونوقش: بأن وجود المشقة في بعض أعمالها لا يلزم تقصده أو الإلزام به في أحوال أخرى دلت القرائن على التيسير فيها.
وفي ختام هذه المسألة يظهر لي قوة كلا القولين، والأول منهما أحوط، وإن كانت النفس تميل لقوة القول الثاني ورجحانه.
[111] ينظر: تبيين الحقائق (2/ 8)مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 193)، مطالب أولي النهى (2 / 297)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[112] أخرجه البخاري (1/ 70)، ومسلم (2/ 870).



[113] المغني (3/ 246)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[114] المغني (5/72)، وينظر: حاشية ابن عابدين (3/552).



[115] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (1/167)، واستثنى الحنفية من منزله دون الميقات دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكا.



[116] ينظر: مواهب الجليل (3/231).



[117] ينظر: المغني (5/72).



[118] ينظر: المجموع (7/11)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 130).



[119] رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: وفيه خصيف، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. مجمع الزوائد (3/ 216)، وقال ابن عبدالهادي: ليس له إسناد، أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم. رسالة لطيفة (ص45).



[120] أخرجه ابن أبي شيبة (4/509)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/129).



[121] ينظر: المجموع (7/16).



[122] أخرجه البخاري (3/ 14) ومسلم (2/ 989).



[123] ينظر: المبسوط (1/167).



[124] ينظر: المجموع (7/16).



[125] ينظر: المبسوط (1/167).



[126] ينظر: أحكام الحرم المكي (ص333).



[127] ينظر: المجموع (7/11)، مغني المحتاج (1/474).



[128] ينظر: المغني (5/72)، الإنصاف (8/117)، قال ابن مفلح: وهي أظهر للخبر.



[129] حيث بوب: (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام). ثم قال: ودخل ابن عمر بغير إحرام، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة. ولم يذكر للحطابين وغيرهم. ينظر: شرح القسطلاني لشرح صحيح البخاري (3/ 316)



[130] المحلى (7/266).



[131] زاد المعاد (3/429).



[132] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[133] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[134] أخرجه البخاري (3/ 17).



[135] ينظر: المجموع (7/16).



[136] أخرجه ابن أبي شيبة (4/363)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/420).



[137] أخرجه مالك (1272)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: الأثر صحيح. (1/421).



[138] سبل السلام (1/ 612).



[139] ينظر: المجموع (7/16).



[140] ينظر: الاختيار (1/142) إلا أنه يحرم عندهم من موضعه أو ما شاء من الحل ما لم يدخل الحرم.



[141] ينظر: المدونة (1/402)، شرح الخرشي (2/304).



[142] ينظر: هداية السالك (2/598)، فتح الباري (3/452).



[143] ينظر: المغني (5/70)، الإنصاف (8/123)، وعن أحمد رواية أنه يرجع للميقات، وحملها ابن قدامة على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام.



[144] فتح الباري (3/452).



[145] إلا إذا كان يعلم أنه سيسمح له فيلزمه الإحرام، وبه أفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين. ينظر: مجموع فتاوى ابن باز (17/53)، لقاء الباب المفتوح (18/178)، و (23/14). ومجموع فتاوى ابن عثيمين (12/367)، و (3/376).



[146] ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 223)، لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (24/65)، ومجموع فتاويه (21/326)، المسائل المشكلة في الحج د.عبد الكريم الخضير، منشورة في موقعه.



[147] تحفة المحتاج (4/43)، الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 124)، وينظر: إعانة الطالبين (2/ 344).



[148] ينظر: الهداية (1/172)، البناية شرح الهداية (4/420،421)



[149] له رحمه الله مجموعة فتاوى لم يستفصل فيها من السائل عن الباعث، وإنما أوجب عليه الإحرام من الميقات أو الرجوع إليه، ينظر مثلا: اللقاء الشهري (41/ 10، بترقيم الشاملة آليا)، و (36/ 17)، و (56/14)، و دروس للشيخ العثيمين فرغها موقع الشبكة الإسلامية (11/ 4، بترقيم الشاملة آليا).



وله فتاوى ذكر فيها الباعث، فإما أن يحمل المطلق على المقيد، أو يكون للشيخ فيها قولان، أو تحمل على من كان له أهل داخل المواقيت أو قدم لعمل دائم، كما هو حال بعضها، ولعلي أورد نصها ليقف القارئ عليها:







سئل رحمه الله: عقدت النية وأنا في حفر الباطن أن آخذ العمرة, وحينما ذهبت في الإجازة أحرمت من منزل الأهل وأخذت العمرة, هل ينبغي عليّ أن أحرم من ميقات الطائف أم من المنزل, أفيدوني حفظكم الله؟ الشيخ: لكن هل نيتك عندما أتيت من حفر الباطن الذهاب إلى أهلك، أو نويت العمرة؟ السائل: الذهاب إلى أهلي وعمرة.



الشيخ: لكن أصل مجيئك في الإجازة؟ السائل: أصل مجيئي للأهل.



الشيخ: إذا كان أصل المجيء إلى الأهل فاذهب إلى الأهل بدون إحرام، ومتى أردت أن تحرم أحرم من جدة , وأما إذا كان ما جئت في هذا الوقت إلا للعمرة لابد تأتي الميقات.



السائل: أنا نويت في الأصل الزيارة للأهل بعدها أحرم وأطلع عمرة.



الشيخ: نعم. لأن هناك فرق بين الذي من أهل جدة وأتى يريد مسكنه, هذا نقول: إذا أردت العمرة أحرم من مكانك من جدة , أو إنسان -مثلاً- من أهل القصيم يريد أن يذهب إلى جدة وإلى مكة هذا نقول: لابد أن تحرم من الميقات.



فأنت الآن حسب ما فهمت من كلامك أنك تريد أهلك بالقصد الأول, فنقول: اذهب إلى أهلك، وإذا أردت الإحرام أحرم من مكانك. لقاء الباب المفتوح (108/ 20، بترقيم الشاملة آليا).



وقال رحمه الله: الميزان في هذا هو الإرادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت وقال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) أي: من غير أهل البلاد التي وقتت لهم ممن أراد الحج والعمرة، فمن أراد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات، ثم بعد ذلك يقضي غرضه الذي أراد، ولكن من كان أهله في جدة -مثلاً- وسافر من البلد التي سافر منها إلى جدة لأهله، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فلا يلزمه الإحرام؛ لأن سفرته هذه في الواقع سفرة إلى أهله. وأما من أراد مكة ولكنه قال: أقضي شغلي أولاً ثم أحرم من المكان الذي قضيت به الشغل؛ فإن هذا لا يجوز ، فالمدار كله على الإرادة .



أما القادم من مصر إلى المملكة فإننا -أيضاً- نسأل عن إرادته، إذا كان يريد أن يقدم للعمل الذي يعمله في المملكة، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فهذا لا يلزمه الإحرام، وأما إذا كانت نيته في هذه السفرة يريد الاعتمار ويريد الذهاب للشغل فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات. لقاء الباب المفتوح (20/ 14، بترقيم الشاملة آليا).



[150] فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99)، فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (11/ 122)، فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 19).



[151] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99).



[152] قال ابن عابدين: (قوله: اعتبار الإرادة عند المجاوزة) أي أن الآفاقي الذي جاوز وقته تعتبر إرادته عند المجاوزة، فإن كان عند قصد المجاوزة أراد دخول مكة لحج أو غيره لزمه الإحرام من الميقات، وإلا بأن أراد دخول مكان في الحل لحاجة فلا شيء عليه. واستظهر في البحر اعتبار الإرادة عند الخروج من بيته. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 580).



قال في شرح اللباب: والوجه في الجملة أن يقصد البستان قصدا أوليا، ولا يضره دخول الحرم بعده قصدا ضمنيا أو عارضيا، كما إذا قصد هندي جدة لبيع وشراء أولا ويكون في خاطره أنه إذا فرغ منه أن يدخل مكة ثانيا، بخلاف من جاء من الهند بقصد الحج أولا ويقصد دخول جدة تبعا ولو قصد بيعا وشراء. حاشية منحة الخالق على البحر الرائق (3/ 53).



لا يجوز له مجاوزة الميقات بلا إحرام ما لم يكن أراد دخول مكان في الحل لحاجة، وإلا فكل آفاقي يريد دخول مكة لا بد أن يريد دخول الحل وقدمنا أن التقييد بالحاجة احتراز عما لو كان عند المجاوزة يريد دخول مكة. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



وقال في الكافي: لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهو لا يريد دخولها، وإنما يريد البستان وهو غير مستحق التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصد دخوله. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



[153] سئل عمن خرج من بلده مريدا للنسك مع نية الإقامة ببندر جدة شهرا أو نحوه للبيع والشراء فهل تباح له مجاوزة الميقات من غير إحرام لتخلل نية الإقامة بجدة أم لا تباح له المجاوزة؟ فأجاب: من بلغ ميقاتا مريدا نسكا لم تجز له مجاوزته بغير إحرام وإن قصد الإقامة ببندر بعد الميقات شهرا مثلا للبيع ونحوه إلا أن يقصد الإقامة بالبندر المذكور قبل الإحرام. فتاوى الرملي (2/ 81).



قال باعشن عن السيد أحمد جمل الليل في جواب سؤال في ذلك: نعم يبقى الكلام في محل إنشاء الإحرام بعد ذلك فعلى ما ذهب إليه الجمهور يجب كونه من الميقات أو من مثل مسافته وعلى ما ذهب إليه الشهاب الرملي يجوز إنشاؤه من ذلك الموضع الذي أقام به شهرا أو نحوه اهـ ولا يخفى أن ما مر عن ابن الجمال الموافق لما قاله الشارح فيه حرج شديد لا سيما فيما إذا نوى الإقامة في نحو الصفراء نحو سنة. حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43)، وينظر: بشرى الكريم بشرح مسائل التعليم (ص: 612)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 119).



[154] قال في فتوى له رحمه الله: إذا كان قصده الأول زيارة أهله بجدة والعمرة تبع جاز له أن يتجاوز الميقات حلالا، ثم يحرم من مكانه إذا هو نوى العمرة. فتاوى العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص: 143)



[155] أخرجه مسلم (2/ 853)، ورواية البخاري: (فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم)، صحيح البخاري (3/ 13)، فتح الباري لابن حجر (4/ 29).



[156] تتبعت طرق الحديث فلم أجد في شيء منها أنه أحرم رضي الله عنه، فقد يكون لم يرد النسك، والاستدلال هنا بفعل أصحابه.



[157] ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 389)، مفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام (1/ 59).



[158] ينظر: حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43،44)



المصدر : مجلة البيان
























يتبع .. أحــكام مجازوة الميقات




المبحث الثالث: تجاوز الميقات بغير إحرام بنية العود إليه:
نقل السرخسي والكاساني والبابرتي الاتفاق على أن من عاد إلى الميقات قبل الإحرام ثم أحرم منه فإن الدم يسقط عنه[93]، وذكر ابن قدامة أنه لا يعلم خلافاً في ذلك[94].
واختلفوا في حكم مجاوزة الميقات بغير إحرام بنية العود على قولين:
القول الأول:
أن المجاوزة بنية العود جائزة ولا إثم عليه في ذلك، وهو مذهب الشافعية[95]، ورجحه ابن عثيمين[96].
واستدلوا على الجواز بأنه رجع وأحرم من الميقات الذي أمر به فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه[97].
ويمكن أن يناقش:
بأن الواجب هو الإحرام عند المرور بالميقات وعدم مجاوزته إلا محرما، لأنها حدود نصب الشارع الإحرام منها ومنع المجاوزة.
ويجاب عنه:
بأنها وضعت لابتداء الإحرام منها، وهذا رجع وابتدأ الإحرام فكأن مروره لم يكن.
القول الثاني:
أن من تجاوز بغير إحرام أساء ولو كان بنية العود إليه.
وهو وجه عند الشافعية[98].
واستدلوا على المنع بعموم أحاديث المواقيت وأنها حدود وضعت تعظيماً للبيت ومنع من تجاوزها إلا بإحرام، وقد حصلت الإساءة بمجاوزتها[99].
ويمكن أن يناقش:
بأن المنع متجه للإحرام بعد المجاوزة، أما من رجع وابتدأ الإحرام منه فقد حصل منه التعظيم للحدود ولم يفرط فيها.
الترجيح:
يظهر لي القول بجواز المجاوزة بنية العود، لأنه غير مريد للنسك الآن، ولأن مقصود الميقات حصول الإحرام منه، وهو سيرجع ويحرم منه.
مسألة: لو تجاوزه بنية العود فهل له أن يرجع إلى ميقات أقرب؟ هذه المسألة مبنية على (حكم مجاوزة الميقات إلى ميقات آخر) وسبق الكلام عليها.
فائدة:
من تجاوز بغير نية العود ولم يستطع العود لعذر كمرض أو خوف فوات الحج أحرم من موضعه ووجب عليه الدم، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً عند من أوجب الإحرام من الميقات[100].
المبحث الرابع: تجاوز الميقات لعدم حمل التصريح أو لعدم وجود ملابس الإحرام.
يجب على من مر بالميقات أن يحرم منه ولو كان يعلم أنه سيلزم بلبس المخيط، وكذلك من كان في

الطائرة أو السيارة وحاذى الميقات وليس معه إحرام فينوي الدخول في النسك وهو في ثيابه، وينزع ما

على رأسه، إلى أن يجد إحراما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ)

[101]، ولأن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم

من جنس فعل المنهي عنه، والمثوبة على أداء الواجبات أعظم من المثوبة على ترك المحرمات،

والعقوبة على ترك الواجبات أعظم من العقوبة على فعل المحرمات [102].

المبحث الخامس: من جاوز الميقات ناسيا أو جاهلا.
مذهب الأئمة الأربعة أن من جاوز الميقات جاهلاً أو ناسياً عليه الرجوع إليه، فإن لم يرجع لزمه الدم،
ولا فرق في لزوم الدم لمن أحرم بعد الميقات بين من كان عامداً عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، لكن يفترقون
في الإثم، فلا إثم على الناسي والجاهل[103].
لأنه من باب المأمور به، والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا[104]، ولأن المأمورات أمور

إيجابية لا بد أن تكون[105]، ولا تزول مفسدة تركها بالنسيان، إذْ يمكن تداركها وإزالة هذه المفسدة

بقضائها[106]
المبحث السادس: ميقات منهم دون المواقيت:
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة[107] إلى أن من كان مسكنه دون المواقيت فإنه يحرم
من بيته أو مسجده، وليس له أن يتجاوز القرية التي هو فيها من غير إحرام، قال ابن قدامة: (هذا قول أكثر أهل العلم)[
108].
فإن أحرم خارجها وهو ناو النسك عند خروجه فعليه دم عندهم.
واستدلوا بحديث ابن عباس: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ)، وقد أنشأ النية في بيته أو قريته فيلزمه الإحرام منها[109].
وذهب الحنفية إلى أن له الإحرام في جميع الحل إلى حدود الحرم، واستدلوا على ذلك بأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم في حقه كالميقات في حق الأفقي[110].
ونوقش: بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، فإنه أوجب الإحرام من حيث أنشأ، وفي الرواية الأخرى: (فَمَنْ

كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ)، فإذا جاوز محلة أهله فقد جاوز ميقاته، فهو كحال الأفقي إذا جاوز

الميقات الذي حدد له.
[93] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (4/170)، العناية (3/110).



[94] المغني (5/69)، وينظر: مواهب الجليل (3/432)، القوانين الفقهية (ص241)، هداية السالك (2/593)، المجموع (3/42)، وذكر المرداوي أنه حكي وجه عند الحنابلة بأن عليه الدم بسبب المجاوزة.



[95] ينظر: البيان للعمراني (4/114)، أسنى المطالب (1/ 460)، تحفة المحتاج (4/ 38)، نهاية المحتاج (3/262). ويظهر لي من سياقات قول الأئمة الثلاثة أنهم يقولون بهذا القول. ينظر: البحر الرائق (3/150)، مواهب الجليل (3/432)، المغني (5/69).



[96] لقاء الباب المفتوح (93/ 27، بترقيم الشاملة آليا).



[97] ينظر: المغني (5/69).



[98] ينظر: المجموع (7/207)، تحفة المحتاج (4/ 38)، وقد جمع الأذرعي بين قول من قال: لا تحرم المجاوزة بنية العود، وإطلاق بعض الأصحاب حرمتها، فيحمل الأول على ما إذا عاد بالفعل بعد أن جاوز بنية العود، ويحمل الثاني على ما إذا لم يعد. حاشية الجمل على شرح المنهج (2/ 405).



[99] ينظر: المجموع (7/207).



[100] المغني (5/73)، وينظر: هداية السالك (2/593)، نهاية المحتاج (3/261)، وقال: ويأثم بالمجاوزة ولا يأثم بترك الرجوع.



[101] أخرجه البخاري (3/ 16)، ومسلم (2/ 835).



[102] ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 85)، فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 233)، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (ص: 407).



[103] ينظر: البحر الرائق (3/ 19)، حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 543)، المدونة (1/ 402)، التهذيب في اختصار المدونة (1/ 508)، التاج والإكليل (4/ 58)، هداية السالك (2/593)، المجموع شرح المهذب (7/ 207)، المغني لابن قدامة (3/ 252)، الفروع وتصحيح الفروع (5/ 313) الإشراف لابن المنذر (3/180).



[104] المجموع شرح المهذب (7/ 207).



[105] ينظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 203).



[106] ينظر: شرح بلوغ المرام لابن عثيمين (كتاب الصيام).



[107] ينظر: مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 194، 201)، المغني (3/ 248)، مطالب أولي النهى (2 / 297).



[108] المغني (3/ 248).



[109] ينظر: المجموع (7 / 194، 201).



[110] ينظر: الهداية (2 / 134)، تبيين الحقائق (2/ 8)،.
المبحث السابع: ميقات أهل مكة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن أهل مكة ومن كان نازلا فيها يهلون منها للحج، وليس لهم أن يذهبوا ليحرموا خارجها، على تفصيل عندهم في الأفضل في مكان الإحرام، وخلاف في لزوم الدم لو أحرم خارج الحرم[111].
أما العمرة فيجب عليه أن يخرج للحل ليحرم منه، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وقال ابن قدامة: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافا.
واستدلوا بأمر النبي عبد الرحمن بن أبي بكر (أن يخرج بعائشة رضي الله عنهما إلى التنعيم لتحرم

منه)[112]، ولم يكن في ذلك من فائدة مع كونها ستتأخر عليهم إلا أن الإحرام للعمرة يجب أن يكون من الحل[113].
الفصل الثاني: مجاوزة الميقات لغير مريد النسك.
المبحث الأول: المجاوزة لمن يريد دخول مكة.
من جاوز الميقات لا يريد دخول الحرم ولا يقصد النسك فلا يجب عليه الإحرام بغير خلاف كما ذكر ابن قدامة[114].
واختلف أهل العلم فيمن قصد مكة ولم يرد النسك على قولين:
القول الأول:
لا تجوز مجاوزة الميقات إلا بإحرام.
وهو مذهب الحنفية[115]، والمالكية[116]، والحنابلة[117]، وقول عند الشافعية[118].
وجميعهم استثنوا من يتكرر دخوله كالحطاب وساعي البريد ما عدا الحنفية.
واستدلوا على الوجوب بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجاوز الموقت إلا بإحرام)[119].
ونوقش:
بضعف الحديث، ولو صح فهو محمول على من أراد النسك.
الدليل الثاني:
ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يجاوز أحد ذات عرق حتى يحرم)[120].
ونوقش:
بأنه عارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا[121]، وليس أحدهما حجة على الآخر.
الدليل الثالث:
حديث: (إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)[122].
فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه[123].
ونوقش:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام وإنما هو صريح في القتال[124].
الدليل الرابع:
أن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة , وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء[125].
ونوقش:
بأنا لا نسلم بأن وجوب الإحرام لإظهار شرف البقعة، بل هو للنسك الذي محله تلك البقعة[126].
القول الثاني:
أن الإحرام لدخول مكة مستحب ولا يجب.
وهو الصحيح من مذهب الشافعية[127]، ورواية عن أحمد[128]، وبه قال البخاري[129]، وابن حزم[130] ، وابن القيم[131].
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)، وفي رواية: (ممن أراد الحج أو العمرة).
قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما، وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام، وله تجاوزها غير محرم[132].
ونوقش:
بأن في عموم المفهوم نظر في الأصول، وعلى تقدير أن يكون له عموم، فإذا دل دليل على وجوب

الإحرام لدخول مكة، وكان ظاهر الدلالة لفظا: قدم على هذا المفهوم؛ لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام

بالنسبة إلى هذه الأماكن، ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة. والعموم إذا لم يقصد: فدلالته ليست

بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ[133].
ويجاب عنه:
بأن الحكم جاء بالنسبة إلى هذه الأماكن وإلى الجهة التي يراد قصدها، ولم يدل دليل صحيح على وجوب الإحرام لدخول مكة.
الدليل الثاني:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر[134].
فقد دخلها صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غير إحرام فدل على عدم وجوبه.
ونوقش:
أن قوله: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) دل على أنها لا تحل لأحد بعده، فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام , وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وأجيب عنه:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي أنه استثناء للإحرام[135].
الدليل الثالث:
ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (كان يدخل غلمانه الحرم بغير إحرام)[136]. و (أقبل من مكة على المدينة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام)[137].
ونوقش:
بأنه فعل صحابي خالفه غيره فليس بحجة.
الدليل الرابع:
أنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة[138].
الدليل الخامس:
أنها تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد[139].
ويظهر رجحان القول بعدم وجوب الإحرام، لأن الأصل براءة الذمة، ولقوة أدلتهم في ذلك.
المبحث الثاني: من جاوز الميقات لعمل أو حاجة هل يلزمه الإحرام؟
المسألة على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن لا يقصد النسك مطلقا، فهذا لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد دخول مكة، ثم إذا عنَّ له أن يعتمر أو يحج بعد ذلك أحرم من موضعه الذي هو فيه، وهو مذهب الحنفية[140]، والمالكية[141]، والشافعية[142]، والحنابلة[143].
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فمن حيث أنشأ).
فيؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ولا يجب عليه الرجوع[144].
الحالة الثانية: أن يجاوز لعمل أو حاجة وهو لا يعلم هل يوافق مرجعه ومديره على حجه أم لا؟ فلا يلزمه الإحرام، لأنه لم يتحقق العزم والإرادة عنده، ولأنه قد لا يؤذن له[145]، وإن كان متردد النية هل يحج أم لا، فهذا التردد إن كان مستوي الطرفين لم يترجح عنده إرادة الحج من عدمه فلا يلزمه الإحرام، لعدم تحقق القصد منه والإرادة للنسك[146].
الحالة الثالثة: أن يجاوز لعمل أو حاجة وفي نيته النسك بعد الإنتهاء من عمله، كمن يذهب لجدة لعمل أو سياحة وفي نيته الحج بعد ذلك، فهل يلزمه الإحرام من الميقات؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه الإحرام من الميقات ولو كانت مدة عمله طويلة، كشهر ونحوه، أو يرجع للميقات بعد فراغه من عمله فيحرم منه، وهو قول ابن حجر الهيتمي[147] الشافعي، وظاهر قول المرغيناني[148] الحنفي، وظاهر فتاوى الشيخ ابن عثيمين[149] واللجنة الدائمة[150].
ودليل هذا القول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: (ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أو العمرة)، فهذا مريد للحج ولو تخلل سفره عمل فيبقى أن الإرادة موجودة[151].
ويناقش:
بأن سفره وقصده هو للعمل، ونية الحج وإرادته تابعة، وهو لا يريد الآن حجا ولا عمرة وإنما يريد مكان عمله وقضاء شغله.
وأجيب عنه:
بأن الإرادة وإن كانت تابعة فيبقى أنها موجودة، والحديث علق الإحرام بالإرادة وقد وجدت فيجب أن يثبت حكم لازمها وهو الإحرام.
ويجاب عنه:
بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وهو لم يحركه من بلده إلا قصد العمل، فالنية فيه هي الأصل، وهي المقصودة الغالبة حال المجاوزة فيكون الحكم لها.
القول الثاني: ينظر إلى الباعث له على السفر، فإن كان الباعث له على سفره العمل الذي قصده، أو المؤتمر الذي سيحضره، ونية العمرة تبع فلا يلزمه الإحرام، وإذا أراد النسك أحرم من موضعه.
أما إن كان الباعث على السفر النسك، وأراد أن يقضي شغله على طريقه فيلزمه الإحرام من الميقات، ولو كان سيبقى في شغله أياما، أو يتجاوز غير محرم وإذا أراد الإحرام رجع للميقات وأحرم منه.
وبه قال بعض الحنفية[152]، والشهاب الرملي والشرواني([153] الشافعيين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي[154].
واستدلوا بدليل وتعليلين:
أما الدليل: فهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَصَرَفَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ

الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي» قَالَ: فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْرَمُوا

كُلُّهُمْ، إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ[155].
وجه الاستدلال: أن أبا قتادة[156] ومن معه رضي الله عنهم لما خرجوا إلى الساحل لم يحرموا من ذي الحليفة مع وجود نية النسك، وإنما أحرموا لما فرغوا من عملهم وتوجهوا قِبل النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على اعتبار الباعث على السفر، وأنه يحرم من حين انتهاء عمله.
ويجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا كان قبل فرض المواقيت، حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل: في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج[157].
الوجه الثاني: أنهم لم يحرموا خوف لقاء العدو الذي أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لأجله، فرخص في ترك الإحرام للحاجة لذلك فمن العسير أن يقاتلوا بإحرامهم.
ويجاب عن الوجه الأول: بأن ذلك لم يثبت، ولم يدل دليل صريح على أنها لم تفرض إلا في السنة العاشرة، وقد أحرم النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة من المدينة كما هو ظاهر الأحاديث، وعلى فرض أنها لم توقت إلا في السنة العاشرة فإحرام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة دليل على أنها ميقات من أراد النسك من قبل.
ويجاب عن الوجه الثاني: أنه إذا جاز عند لقاء العدو للحاجة مع أن اللقاء كان مظنونا فالحاجة موجودة أيضاً فيمن سافر لأجل عمل، وفيه من الحرج والمشقة عليه أن يبقى أياما في عمله بإحرامه.
وأما التعليل الذي استدلوا به: فهو أنه عند سفره ومجاوزته الميقات غير مريد للنسك، وإنما يريد ذلك الموضع الذي فيه عمله، فهو الذي نهزه وبعثه لأجل السفر، فكيف نوجب عليه الإحرام ونية النسك ليست حاضرة عنده؟
ويجاب عنه: بأنه وإن كان يقصد موضع عمله عند المجاوزة إلا أن نية النسك موجودة، فهو ناو أداءه بعده، والحديث علق الوجوب بمطلق الإرادة (ممن أراد الحج أو العمرة)، وهو في حقيقته مريد لذلك ولو تخلله شغل آخر.
ونوقش: بأنه (يغتفر في الشيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً)، و (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)، والإرادة هنا حقيقة لا ظهور لها في قصده، بل قصده وسفره قِبل عمله، ونية النسك بعده تابعة لا أصلية.
التعليل الثاني: أن إلزامه بالإحرام وهو غير قاصد للنسك حرج لا تأتي الشريعة بمثله[158]،
وفيه من المشقة عليه والتنفير عن أداء النسك لصعوبة وعسر الجمع بينهما عليه.
ويجاب عنه: بأن الحج والعمرة يوجد في غالبهما المشقة، والأجر على قدر النصب.
ونوقش: بأن وجود المشقة في بعض أعمالها لا يلزم تقصده أو الإلزام به في أحوال أخرى دلت القرائن على التيسير فيها.
وفي ختام هذه المسألة يظهر لي قوة كلا القولين، والأول منهما أحوط، وإن كانت النفس تميل لقوة القول الثاني ورجحانه.
[111] ينظر: تبيين الحقائق (2/ 8)مواهب الجليل (3/ 42)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2 / 23)، المجموع (7 / 193)، مطالب أولي النهى (2 / 297)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[112] أخرجه البخاري (1/ 70)، ومسلم (2/ 870).



[113] المغني (3/ 246)، فتح الباري لابن حجر (3/ 387).



[114] المغني (5/72)، وينظر: حاشية ابن عابدين (3/552).



[115] ينظر: بدائع الصنائع (2/165)، المبسوط (1/167)، واستثنى الحنفية من منزله دون الميقات دخول الحرم ومكة إلا أن يريد نسكا.



[116] ينظر: مواهب الجليل (3/231).



[117] ينظر: المغني (5/72).



[118] ينظر: المجموع (7/11)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 130).



[119] رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: وفيه خصيف، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. مجمع الزوائد (3/ 216)، وقال ابن عبدالهادي: ليس له إسناد، أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم. رسالة لطيفة (ص45).



[120] أخرجه ابن أبي شيبة (4/509)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/129).



[121] ينظر: المجموع (7/16).



[122] أخرجه البخاري (3/ 14) ومسلم (2/ 989).



[123] ينظر: المبسوط (1/167).



[124] ينظر: المجموع (7/16).



[125] ينظر: المبسوط (1/167).



[126] ينظر: أحكام الحرم المكي (ص333).



[127] ينظر: المجموع (7/11)، مغني المحتاج (1/474).



[128] ينظر: المغني (5/72)، الإنصاف (8/117)، قال ابن مفلح: وهي أظهر للخبر.



[129] حيث بوب: (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام). ثم قال: ودخل ابن عمر بغير إحرام، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة. ولم يذكر للحطابين وغيرهم. ينظر: شرح القسطلاني لشرح صحيح البخاري (3/ 316)



[130] المحلى (7/266).



[131] زاد المعاد (3/429).



[132] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[133] إحكام الأحكام لابن دقيق (2/ 48).



[134] أخرجه البخاري (3/ 17).



[135] ينظر: المجموع (7/16).



[136] أخرجه ابن أبي شيبة (4/363)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: إسناده حسن. (1/420).



[137] أخرجه مالك (1272)، وقال صاحب كتاب: الآثار الواردة عن الصحابة في المناسك: الأثر صحيح. (1/421).



[138] سبل السلام (1/ 612).



[139] ينظر: المجموع (7/16).



[140] ينظر: الاختيار (1/142) إلا أنه يحرم عندهم من موضعه أو ما شاء من الحل ما لم يدخل الحرم.



[141] ينظر: المدونة (1/402)، شرح الخرشي (2/304).



[142] ينظر: هداية السالك (2/598)، فتح الباري (3/452).



[143] ينظر: المغني (5/70)، الإنصاف (8/123)، وعن أحمد رواية أنه يرجع للميقات، وحملها ابن قدامة على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام.



[144] فتح الباري (3/452).



[145] إلا إذا كان يعلم أنه سيسمح له فيلزمه الإحرام، وبه أفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين. ينظر: مجموع فتاوى ابن باز (17/53)، لقاء الباب المفتوح (18/178)، و (23/14). ومجموع فتاوى ابن عثيمين (12/367)، و (3/376).



[146] ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (17/ 223)، لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (24/65)، ومجموع فتاويه (21/326)، المسائل المشكلة في الحج د.عبد الكريم الخضير، منشورة في موقعه.



[147] تحفة المحتاج (4/43)، الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 124)، وينظر: إعانة الطالبين (2/ 344).



[148] ينظر: الهداية (1/172)، البناية شرح الهداية (4/420،421)



[149] له رحمه الله مجموعة فتاوى لم يستفصل فيها من السائل عن الباعث، وإنما أوجب عليه الإحرام من الميقات أو الرجوع إليه، ينظر مثلا: اللقاء الشهري (41/ 10، بترقيم الشاملة آليا)، و (36/ 17)، و (56/14)، و دروس للشيخ العثيمين فرغها موقع الشبكة الإسلامية (11/ 4، بترقيم الشاملة آليا).



وله فتاوى ذكر فيها الباعث، فإما أن يحمل المطلق على المقيد، أو يكون للشيخ فيها قولان، أو تحمل على من كان له أهل داخل المواقيت أو قدم لعمل دائم، كما هو حال بعضها، ولعلي أورد نصها ليقف القارئ عليها:







سئل رحمه الله: عقدت النية وأنا في حفر الباطن أن آخذ العمرة, وحينما ذهبت في الإجازة أحرمت من منزل الأهل وأخذت العمرة, هل ينبغي عليّ أن أحرم من ميقات الطائف أم من المنزل, أفيدوني حفظكم الله؟ الشيخ: لكن هل نيتك عندما أتيت من حفر الباطن الذهاب إلى أهلك، أو نويت العمرة؟ السائل: الذهاب إلى أهلي وعمرة.



الشيخ: لكن أصل مجيئك في الإجازة؟ السائل: أصل مجيئي للأهل.



الشيخ: إذا كان أصل المجيء إلى الأهل فاذهب إلى الأهل بدون إحرام، ومتى أردت أن تحرم أحرم من جدة , وأما إذا كان ما جئت في هذا الوقت إلا للعمرة لابد تأتي الميقات.



السائل: أنا نويت في الأصل الزيارة للأهل بعدها أحرم وأطلع عمرة.



الشيخ: نعم. لأن هناك فرق بين الذي من أهل جدة وأتى يريد مسكنه, هذا نقول: إذا أردت العمرة أحرم من مكانك من جدة , أو إنسان -مثلاً- من أهل القصيم يريد أن يذهب إلى جدة وإلى مكة هذا نقول: لابد أن تحرم من الميقات.



فأنت الآن حسب ما فهمت من كلامك أنك تريد أهلك بالقصد الأول, فنقول: اذهب إلى أهلك، وإذا أردت الإحرام أحرم من مكانك. لقاء الباب المفتوح (108/ 20، بترقيم الشاملة آليا).



وقال رحمه الله: الميزان في هذا هو الإرادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت وقال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) أي: من غير أهل البلاد التي وقتت لهم ممن أراد الحج والعمرة، فمن أراد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات، ثم بعد ذلك يقضي غرضه الذي أراد، ولكن من كان أهله في جدة -مثلاً- وسافر من البلد التي سافر منها إلى جدة لأهله، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فلا يلزمه الإحرام؛ لأن سفرته هذه في الواقع سفرة إلى أهله. وأما من أراد مكة ولكنه قال: أقضي شغلي أولاً ثم أحرم من المكان الذي قضيت به الشغل؛ فإن هذا لا يجوز ، فالمدار كله على الإرادة .



أما القادم من مصر إلى المملكة فإننا -أيضاً- نسأل عن إرادته، إذا كان يريد أن يقدم للعمل الذي يعمله في المملكة، ولكن في نيته أنه في يوم من الأيام يأتي بعمرة، فهذا لا يلزمه الإحرام، وأما إذا كانت نيته في هذه السفرة يريد الاعتمار ويريد الذهاب للشغل فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات. لقاء الباب المفتوح (20/ 14، بترقيم الشاملة آليا).



[150] فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99)، فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (11/ 122)، فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 19).



[151] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة - 2 (10/ 99).



[152] قال ابن عابدين: (قوله: اعتبار الإرادة عند المجاوزة) أي أن الآفاقي الذي جاوز وقته تعتبر إرادته عند المجاوزة، فإن كان عند قصد المجاوزة أراد دخول مكة لحج أو غيره لزمه الإحرام من الميقات، وإلا بأن أراد دخول مكان في الحل لحاجة فلا شيء عليه. واستظهر في البحر اعتبار الإرادة عند الخروج من بيته. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 580).



قال في شرح اللباب: والوجه في الجملة أن يقصد البستان قصدا أوليا، ولا يضره دخول الحرم بعده قصدا ضمنيا أو عارضيا، كما إذا قصد هندي جدة لبيع وشراء أولا ويكون في خاطره أنه إذا فرغ منه أن يدخل مكة ثانيا، بخلاف من جاء من الهند بقصد الحج أولا ويقصد دخول جدة تبعا ولو قصد بيعا وشراء. حاشية منحة الخالق على البحر الرائق (3/ 53).



لا يجوز له مجاوزة الميقات بلا إحرام ما لم يكن أراد دخول مكان في الحل لحاجة، وإلا فكل آفاقي يريد دخول مكة لا بد أن يريد دخول الحل وقدمنا أن التقييد بالحاجة احتراز عما لو كان عند المجاوزة يريد دخول مكة. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



وقال في الكافي: لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهو لا يريد دخولها، وإنما يريد البستان وهو غير مستحق التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصد دخوله. حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 582).



[153] سئل عمن خرج من بلده مريدا للنسك مع نية الإقامة ببندر جدة شهرا أو نحوه للبيع والشراء فهل تباح له مجاوزة الميقات من غير إحرام لتخلل نية الإقامة بجدة أم لا تباح له المجاوزة؟ فأجاب: من بلغ ميقاتا مريدا نسكا لم تجز له مجاوزته بغير إحرام وإن قصد الإقامة ببندر بعد الميقات شهرا مثلا للبيع ونحوه إلا أن يقصد الإقامة بالبندر المذكور قبل الإحرام. فتاوى الرملي (2/ 81).



قال باعشن عن السيد أحمد جمل الليل في جواب سؤال في ذلك: نعم يبقى الكلام في محل إنشاء الإحرام بعد ذلك فعلى ما ذهب إليه الجمهور يجب كونه من الميقات أو من مثل مسافته وعلى ما ذهب إليه الشهاب الرملي يجوز إنشاؤه من ذلك الموضع الذي أقام به شهرا أو نحوه اهـ ولا يخفى أن ما مر عن ابن الجمال الموافق لما قاله الشارح فيه حرج شديد لا سيما فيما إذا نوى الإقامة في نحو الصفراء نحو سنة. حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43)، وينظر: بشرى الكريم بشرح مسائل التعليم (ص: 612)، حاشيتا قليوبي وعميرة (2/ 119).



[154] قال في فتوى له رحمه الله: إذا كان قصده الأول زيارة أهله بجدة والعمرة تبع جاز له أن يتجاوز الميقات حلالا، ثم يحرم من مكانه إذا هو نوى العمرة. فتاوى العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص: 143)



[155] أخرجه مسلم (2/ 853)، ورواية البخاري: (فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم)، صحيح البخاري (3/ 13)، فتح الباري لابن حجر (4/ 29).



[156] تتبعت طرق الحديث فلم أجد في شيء منها أنه أحرم رضي الله عنه، فقد يكون لم يرد النسك، والاستدلال هنا بفعل أصحابه.



[157] ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 389)، مفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام (1/ 59).



[158] ينظر: حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (4/43،44)



 
 توقيع : بالقرآن نرتقي





بالقرآن نرتقي


رد مع اقتباس