اعلانات
اعلانات     اعلانات
 


﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ۝1 ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِينَ ۝2 ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ۝3 مَـٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ۝4 إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ۝5 ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ۝6 صِرَ ٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّينَ ۝7﴾ [الفاتحة: 1-7] * سورة الفاتحة مكية

سُمِّيت سورةَ الفاتحة لافتتاح كتاب الله بها، وتسمَّى أم القرآن لاشتمالها على موضوعاته، من توحيد لله، وعبادة، وغير ذلك، وهي أعظم سورة في القرآن، وهي السَّبعُ المثاني.


           :: سادن الصنم يتلوى على الأرض حزنا على فراق الصنم ،، ثم أسلم (آخر رد :ابن الورد)       :: 🔥 السيدة الأولى السنية في مواجهة السيد الشيعي 😱بعنوان رزية الخميسى 🔥 (آخر رد :ابن الورد)       :: مرض توحد يحبوا مثل القرد . (آخر رد :ابن الورد)       :: شيطان الجان يقول أنا الملك . (آخر رد :ابن الورد)       :: اعراض السحر و الحسد و العين ؟! (آخر رد :شبوه نت)       :: الفرق بين السحر والعين والحسد ..اعرف اللى عندك (آخر رد :ابن الورد)       :: كوكب جليز 12.. هل عثر العلماء على الأرض الجديدة ؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: خطوات علاج سحر تعطيل الزواج بالتفصيل !! (آخر رد :ابن الورد)       :: القـــــــــرين . (آخر رد :ابن الورد)       :: هل السحر يقطع الرزق بأنواعه ؟ وكيف اعرف ؟ (آخر رد :ابن الورد)      

 تغيير اللغة     Change language
Google
الزوار من 2005:
Free Website Hit Counter

المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) للكتب والأبحاث العلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16 Mar 2010, 04:30 AM   #61
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48)
التفسير:
.{ 48 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله..
قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تغني؛ و{ نفس } نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً؛ فلا تجزي، ولا تغني نفس عن نفس أبداً . حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني شيئاً عن أبيه، ولا أمه .؛ وقد نادى صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين؛ فجعل ينادي كل واحد باسمه، ويقول: "يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك شيئاً..."(100) . مع أن العادة أن الإنسان يدافع عن حريمه، وعن نسائه .؛ لكن في يوم القيامة ليست هناك مدافعة؛ بل قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] : تزول الأنساب، وينسى الإنسان كل شيء، ولا يسأل أين ولدي، ولا أين ذهب أبي، ولا أين ذهب أخي، ولا أين ذهبت أمي: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] ..
قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفاعة } أي لا يقبل من نفس عن نفس شفاعة؛ و "الشفاعة" هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة(101) : من جلب المنفعة؛ وشفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها(102) ، وفيمن دخلها أن يخرج منها(103) : من دفع المضرة؛ فيومَ القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل من نفس عن نفس شفاعة أبداً..
قوله تعالى: { ولا يؤخذ منها } أي من النفس؛ { عدل } أي بديل يعدل به عن الجزاء؛ و "العدل" بمعنى المعادِل المكافئ؛ ففي الدنيا قد تجب العقوبة على شخص، ويفتدي نفسه ببدل؛ لكن في الآخرة لا يمكن..
قوله تعالى: { ولا هم ينصرون } أي لا أحد ينصرهم . أي يمنعهم من عذاب الله .؛ لأن الذي يخفف العذاب واحد من هذه الأمور الثلاثة: إما شفاعة؛ وإما معادلة؛ وإما نصر..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: التحذير من يوم القيامة؛ وهذا يقع في القرآن كثيراً؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }، وقوله تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} [المزمل: 17] ..
.2 ومنها: أنه في يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً . بخلاف الدنيا .: فإنه قد يجزي أحد عن أحد؛ لكن يوم القيامة: لا..
.3 ومنها: أن الشفاعة لا تنفع يوم القيامة؛ والمراد لا تنفع من لا يستحق أن يشفع له؛ وأما من يستحق فقد دلت النصوص المتواترة على ثبوت الشفاعة . وهي معروفة في مظانها من كتب الحديث، والعقائد ...
.4 ومنها: أن يوم القيامة ليس فيه فداء؛ لا يمكن أن يقدم الإنسان فداءً يعدل به؛ لقوله تعالى: ( ولا عدل)
.5 ومنها: أنه لا أحد يُنصر يوم القيامة إذا كان من العصاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} [الصافات: 25، 26] ؛ فلا أحد ينصر أحداً يوم القيامة . لا الآلهة، ولا الأسياد، ولا الأشراف، ولا غيرهم ...

القـرآن
)وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49)
التفسير:
.{ 49 } قوله تعالى: { وإذ نجيناكم من آل فرعون } أي واذكروا إذ أنقذناكم من آل فرعون؛ والمراد بـ{ آل فرعون } جماعة فرعون، ويدخل فيهم فرعون بالأولوية؛ لأنه هو المسلِّط لهم على بني إسرائيل..
وكان بنو إسرائيل مستضعفين في مصر، وسُلِّط عليهم الفراعنة حتى كانوا كما قال الله تعالى: { يسومونكم سوء العذاب }؛ ومعنى "السوم" في الأصل: الرعي؛ ومنه السائمة . أي الراعية . والمعنى: أنهم لا يرعونكم إلا بهذا البلاء العظيم و{ سوء العذاب } أي سيئه وقبيحه..
قوله تعالى: { يذبحون أبنائكم }: الفعل مضَعَّف . أي مشدد . للمبالغة؛ لكثرة من يذْبحون، وعظم ذبحهم؛ هذا وقد جاء في سورة الأعراف: { يقتلون } وهو بمعنى { يذبحون }؛ ويحتمل أن يكون مغايراً له؛ فيُحمل على أنهم يقتلون بعضاً بغير الذبح، ويذبحون بعضاً؛ وعلى كلٍّ فالجملة بيان لقوله تعالى: { يسومونكم سوء العذاب}؛ هذا وجاء في سورة إبراهيم: { يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم } بالواو عطفاً على قوله تعالى: { يسومونكم }؛ والعطف يقتضي المغايرة؛ فيكون المعنى أنهم جمعوا بين سوم العذاب . وهو التنكيل، والتعذيب . وبين الذبح..
قوله تعالى: { ويستحيون نساءكم } أي يستبقون نساءكم؛ لأنه إذا ذهب الرجال، وبقيت النساء ذلّ الشعب، وانكسرت شوكته؛ لأن النساء ليس عندهن من يدافع، ويبقين خدماً لآل فرعون؛ وهذا . والعياذ بالله. من أعظم ما يكون من الإذلال؛ ومع هذا أنجاهم الله تعالى من آل فرعون، وأورثهم ديار آل فرعون، كما قال تعالى: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل} [الشعراء: 57. 59] وقال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين} [الدخان: 25 . 28] . وهم بنو إسرائيل ...
قوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } أي وفي إنجائكم من آل فرعون ابتلاء من الله عزّ وجل عظيم. أي اختبار عظيم .؛ ليعلم من يشكر منكم، ومن لا يشكر..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: تذكير الله تعالى لبني إسرائيل نعمته عليهم بإنجائهم من آل فرعون..
.2 ومنها: أن الإنجاء من العدو نعمة كبيرة ينعم الله بها على العبد؛ ولهذا ذكرهم الله بها في قوله تعالى:
( نجيناكم )
.3 ومنها: بيان حنق آل فرعون على بني إسرائيل؛ وقيل: إن هذا التقتيل كان بعد بعثة موسى؛ لأن فرعون لما جاءه موسى بالبينات قال: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} [غافر: 25] ، وقال في سورة الأعراف: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف: 127)
وذكر بعض المؤرخين أن هذا التقتيل كان قبل بعثة موسى، أو قبل ولادته؛ لأن الكهنة ذكروا لفرعون أنه سيولد لبني إسرائيل ولد يكون هلاكك على يده؛ فجعل يقتلهم؛ وعضدوا هذا القول بما أوحى الله تعالى إلى أم موسى: {أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني} [القصص: 7] ؛ لكن هذه الآية ليست صريحة فيما ذكروا؛ لأنها قد تخاف عليه إما من هذا الفعل العام الذي يقتَّل به الأبناء، أو بسبب آخر، وآية الأعراف: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} [الأعراف: 129] لا دليل فيها صراحة على أن التقتيل كان قبل ولادة موسى عليه السلام؛ لأن الإيذاء لا يدل على القتل، ولأن فرعون لم يقل: سنقتل أبناءهم، ونستحيي نساءهم إلا بعد أن أُرسل إليه موسى عليه السلام، ولهذا قال موسى عليه السلام لقومه بعد ذلك: {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} (الأعراف: 128)
.4 ومنها: أن الرب سبحانه وتعالى له مطلق التصرف في عباده بما يسوؤهم، أو يسرهم؛ لقوله تعالى:
{ من ربكم } يعني هذا العذاب الذي سامكم إياه آل فرعون، والإنقاذ منه؛ كله من الله عزّ وجلّ؛ فهو الذي بيده الخير، ومنه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء..
القـرآن
)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50)
التفسير:
.{ 50 } قوله تعالى: { وإذ }: متعلقة بمحذوف؛ والتقدير: واذكروا . يعني بني إسرائيل . إذ؛ { فرقنا بكم البحر } أي فلقناه لكم، وفصلنا بعضه عن بعض حتى عبرتم إلى الشاطئ..
قوله تعالى { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون }: وذلك أن موسى، وقومه لما تكاملوا خارجين من هذا الذي فلقه الله عزّ وجلّ من البحر دخل فرعون، وقومه؛ فلما تكاملوا داخلين أمر الله تعالى البحر، فانطبق عليهم، فغرقوا جميعاً..
قوله تعالى: { وأنتم تنظرون }: الجملة هذه حالية . أي أن هذا وقع والحال أنكم تنظرون؛ ولهذا قال الله . تبارك وتعالى . لفرعون: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} [يونس: 92] ينظرون إليك أنك قد هلكت..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: مناسبة قوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } لما قبله ظاهرة جداً، وذلك أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى تسلُّطَ آل فرعون عليهم ذكر مآل هؤلاء المتسلطين؛ وأن الله أغرقهم، وأنجى هؤلاء، وأورثهم أرضهم، كما قال الله تعالى: {وأورثناها بني إسرائيل} (الشعراء: 59).
.2 ومنها: تذكير الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بنعمه؛ وقد تضمن هذا التذكير حصول المطلوب، وزوال المكروه؛ حصول المطلوب: بنجاتهم؛ وزوال المكروه: بإهلاك عدوهم..
.3 ومنها: بيان قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهذا الماء السيال أمره الله . تبارك وتعالى . أن يتمايز، وينفصل بعضه عن بعض؛ فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم . أي كالجبل العظيم؛ وثم وجه آخر من هذه القدرة: أن هذه الطرق صارت يبساً في الحال مع أنه قد مضى عليها سنون كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ والماء من فوقها، ولكنها صارت في لحظة واحدة يبساً، كما قال تعالى: {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى} [طه: 77] ؛ وقد ذكر بعض المفسرين أنه كانت في هذه الفرق فتحات ينظر بعضهم إلى بعض . حتى لا ينْزعجوا، ويقولوا: أين أصحابنا؟! وهذا ليس ببعيد على الله سبحانه وتعالى..
وقد وقع مثل ذلك لهذه الأمة؛ فقد ذكر ابن كثير . رحمه الله في "البداية والنهاية" أنه ما من آية سبقت لرسول إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم مثلها: إما له صلى الله عليه وسلم هو بنفسه، أو لأمته؛ ومعلوم أن الكرامات التي تقع لمتبع الرسول هي في الحقيقة آيات له؛ لأنها تصديق لطريق هذا الولي المتبع للرسول؛ فتكون آية على صدق الرسول، وصحة الشريعة؛ ولهذا من القواعد المعروفة أن كل كرامة لولي فهي آية لذلك النبي المتبع؛ وذكر ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" على ذلك أمثلة؛ ومنها أن من الصحابة من مشَوا على الماء؛ وهو أبلغ من فلق البحر لبني إسرائيل، ومشيهم على الأرض اليابسة..
.4من فوائد الآية: أن الآل يدخل فيهم من ينتسبون إليهم؛ فقد قال تعالى: { وأغرقنا آل فرعون }؛ وفرعون قد غرق بلا شك، كما قال تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90] الآيتين..
.5 ومنها: أن إغراق عدو الإنسان وهو ينظر من نعمة الله عليه؛ فإغراقه، أو إهلاكه نعمة؛ وكون عدوه ينظر إليه نعمة أخرى؛ لأنه يشفي صدره؛ وإهلاك العدو بيد عدوه أشفى، كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم} [التوبة: 14، 15] ؛ نعم، عند عجز الناس لا يبقى إلا فعل الله عزّ وجلّ؛ ولهذا في غزوة الأحزاب نُصروا بالريح التي أرسلها الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] ..
.6 ومن فوائد الآية: عتوّ بني إسرائيل؛ فإن بني إسرائيل مع هذه النعم العظيمة كانوا من أشد الناس طغياناً، وتكذيباً للرسل، واستكباراً عن عبادة الله عزّ وجلّ..
.7 ومنها: أن الله تعالى سخِر من فرعون، حيث أهلكه بجنس ما كان يفتخر به، وأورث أرضه موسى . عليه الصلاة والسلام؛ وقد كان فرعون يقول: {يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 51 . 52] ؛ فأغرقه الله تعالى بالماء الذي كان يفتخر بجنسه، وأورث موسى أرضه الذي وصفه بأنه مهين، ولا يكاد يبين..



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:31 AM   #62
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القرآن
)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة:51)) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:52)
التفسير:
.{ 51 } قوله تعالى: { وإذ واعدنا موسى } أي واذكروا إذ واعدنا موسى؛ { أربعين ليلة }: وعده الله تعالى لميقاته ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة؛ وفي قوله تعالى: { واعدنا } قراءتان سبعيتان: بألف بعد الواو؛ وبدونها..
قوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل } أي صيرتم العجل؛ و{ العجل } مفعول أول؛ والثاني: محذوف؛ والتقدير: اتخذتم العجل إلهاً؛ و "العجل" تمثال من ذهب صنعه السامري، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم، وإله موسى فنسي..
قوله تعالى: { من بعده } أي من بعد موسى حين ذهب لميقات الله..
قوله تعالى: { وأنتم ظالمون }: هذه الجملة حال من التاء في قوله تعالى: { اتخذتم }؛ والفائدة من ذكر هذه الحال زيادة التوبيخ، وأنهم غير معذورين..
.{ 52 } قوله تعالى: { ثم عفونا عنكم } أي تجاوزنا عن عقوبتكم؛ { من بعد ذلك }: أتى بها؛ لأن العفو إنما حصل حين تابوا إلى الله، وقتلوا أنفسهم..
قوله تعالى: { لعلكم تشكرون }، "لعل" هنا للتعليل؛ و{ تشكرون } أي تشكرون الله على نعمه؛ والشكر يكون بالقلب: وهو إيمان القلب بأن النعمة من الله عزّ وجلّ، وأن له المنة في ذلك؛ ويكون باللسان: وهو التحدث بنعمة الله اعترافاً . لا افتخاراً؛ ويكون بالجوارح: وهو القيام بطاعة المنعِم؛ وفي ذلك يقول الشاعر:.
أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: حكمة الله . تبارك وتعالى . في تقديره، حيث واعد موسى أربعين ليلة لينَزِّل عليه فيها التوراة . مع أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يَنزِّلها في ليلة مرة واحدة؛ ولكن لحكمة . لا نعلم ما هي . وعده الله تعالى ثلاثين ليلة أولاً، ثم أتمها بعشر؛ فتم ميقات ربه أربعين ليلة..
.2 ومنها: بيان جهل بني إسرائيل الجهل التام؛ وجه ذلك أن هذا الحلي الذي جعلوه إلهاً هم الذين صنعوه بأنفسهم؛ فقد استعاروا حلياً من آل فرعون، وصنعوه على صورة الثور عجلاً جسداً . لا روح فيه؛ ثم قال السامري: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} [طه: 88] ؛ وزعموا أن موسى ضلّ، ولم يهتد إلى ربه، وهذا ربه! والعياذ بالله؛ فكيف يكون المصنوع رباً لكم، ولموسى وأنتم الذين صنعتموه! وهذا دليل على جهلهم، وغباوتهم إلى أبعد الحدود؛ وقد قالوا لموسى . عليه الصلاة والسلام . حينما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] قال لهم نبيهم موسى: {إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] ، وصدق عليه الصلاة والسلام..
.3 ومن فوائد الآيتين: أن اتخاذهم العجل كان عن ظلم؛ لقوله تعالى: { وأنتم ظالمون } . وهذا أبلغ، وأشنع في توبيخهم، والإنكار عليهم..
.4 ومنها: سعة حلم الله عزّ وجلّ، وأنه مهما بارز الإنسان ربه بالذنوب فإن حلم الله تعالى قد يشمله، فيوفق للتوبة؛ وهؤلاء وفِّقوا لها..
.5 ومنها: أن العفو موجب للشكر؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }؛ وإذا كان العفو . وهو زوال النقم . موجباً للشكر فحدوث النعم أيضاً موجب للشكر من باب أولى..
القـرآن
)وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:53)
التفسير:
.{ 53 } قوله تعالى: { وإذ آتينا موسى الكتاب } أي واذكروا إذ أعطينا موسى؛ { الكتاب } أي التوراة..
قوله تعالى: { والفرقان } إما صفة مشبهة، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ لأن المراد بـ{ الفرقان } الفارق؛ والمراد به هنا الفارق بين الحق والباطل؛ وعطفه هنا من باب عطف الصفة على الموصوف؛ والعطف يقتضي المغايرة؛ والمغايرة يكتفى فيها بأدنى شيء؛ قد تكون المغايرة بين ذاتين؛ وقد تكون المغايرة بين صفتين؛ وقد تكون بين ذات وصفة؛ فمثلاً: قوله تعالى: {خلق السماوات والأرض} [الأنعام: 1] : المغايرة بين ذاتين؛ وقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 . 4] : المغايرة بين صفتين؛ وقوله تعالى هنا: { الكتاب والفرقان }: المغايرة بين ذات وصفة؛ فـ{ الكتاب } نفس التوراة؛ و{ الفرقان } صفته؛ فالعطف هنا من باب عطف الصفة على الموصوف..
قوله تعالى: { لعلكم تهتدون }: "لعل" للتعليل؛ أي لعلكم تهتدون بهذا الكتاب الذي هو الفرقان؛ لأن الفرقان هدى يهتدي به المرء من الضلالة؛ و{ تهتدون } أي هداية العلم، والتوفيق؛ فهو نازل للهداية؛ ولكن من الناس من يهتدي، ومنهم من لا يهتدي..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن إنزال الله تعالى الكتب للناس من نعمه، وآلائه؛ بل هو من أكبر النعم؛ لأن الناس لا يمكن أن يستقلوا بمعرفة حق الخالق؛ بل ولا حق المخلوق؛ ولذلك نزلت الكتب تبياناً للناس..
.2 ومنها: أن موسى صلى الله عليه وسلم نبي رسول، لأن الله تعالى آتاه الكتاب..
.3 ومنها: فضيلة التوراة؛ لأنه أُطلق عليها اسم { الكتاب }؛ و "أل" هذه للعهد الذهني؛ فدل هذا على أنها معروفة لدى بني إسرائيل، وأنه إذا أُطلق الكتاب عندهم فهو التوراة؛ أيضاً سماها الله تعالى الفرقان، كما سمى القرآن الفرقان؛ لأن كلا الكتابين أعظم الكتب، وأهداهما؛ لقوله تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} [القصص: 49] . يعني التوراة، والإنجيل . {أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] ؛ ودل هذا على أن التوراة مشاركة للقرآن في كونها فرقاناً؛ ولهذا كانت عمدة الأنبياء من بني إسرائيل، كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} [المائدة: 44] ..
.4 ومن فوائد الآية: بيان عتوّ بني إسرائيل، وطغيانهم؛ لأنه إذا كانت التوراة التي نزلت عليهم فرقاناً، ثم هم يكفرون هذا الكفر دلّ على زيادة عتوهم، وطغيانهم؛ إذ من نُزِّل عليه كتاب يكون فرقاناً كان يجب عليه بمقتضى ذلك أن يكون مؤمناً مذعناً..
.5 ومنها: أن الله . تبارك وتعالى . يُنزل الكتب، ويجعلها فرقاناً لغاية حميدة حقاً . وهي الهداية؛ لقوله تعالى: ( لعلكم تهتدون )
.6 ومنها: أن من أراد الهداية فليطلبها من الكتب المنزلة من السماء . لا يطلبها من الأساطير، وقصص الرهبان، وقصص الزهاد، والعباد، وجعجعة المتكلمين، والفلاسفة، وما أشبه ذلك؛ بل من الكتب المنَزلة من السماء..
فعلى هذا ما يوجد في كتب الوعظ من القصص عن بعض الزهاد، والعباد، ونحوهم نقول لكاتبيها، وقارئيها: خير لكم أن تبدو للناس كتاب الله عزّ وجلّ، وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم وتبسطوا ذلك، وتشرحوه، وتفسروه بما ينبغي أن يفهم حتى يكون ذلك نافعاً للخلق؛ لأنه لا طريق للهداية إلى الله إلا ما جاء من عند الله عزّ وجلّ..
.7 ومن فوائد الآية: إثبات الأسباب، وتأثيرها في مسبَّباتها؛ وبسط ذلك مذكور في كتب العقائد..
.8 ومنها: أن الإيتاء المضاف إلى الله سبحانه وتعالى يكون كونياً، ويكون شرعياً؛ مثال الكوني قوله تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} [القصص: 76] ؛ ومثال الشرعي قوله تعالى: {وآتينا موسى الكتاب} (الإسراء: 2)

القـرآن
)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54)
التفسير:
.{ 54 } ثم ذكر الله تعالى نعمة أخرى أيضاً فقال: { وإذ قال موسى لقومه } أي واذكروا إذ قال موسى لقومه؛ { يا قوم } أي يا أصحابي؛ وناداهم بوصف القومية تحبباً، وتودداً، وإظهاراً بأنه ناصح لهم؛ لأن الإنسان ينصح لقومه بمقتضى العادة..

قوله تعالى: { إنكم ظلمتم أنفسكم }: أكد الجملة لبيان حقيقة ما هم عليه؛ و{ ظلمتم } بمعنى نقصتم أنفسكم حقها؛ لأن "الظلم" في الأصل بمعنى النقص، كما قال الله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33] أي لم تنقص..
قوله تعالى: { باتخاذكم العجل }: الباء هنا للسببية . أي بسبب اتخاذكم العجل؛ و "اتخاذ" مصدر فِعْله: اتخذ؛ وهو مضاف إلى فاعله: الكاف؛ و{ العجل } مفعول أول؛ والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلهاً؛ والمعنى: ظلمتم أنفسكم بسبب اتخاذكم العجل إلهاً تعبدونه من دون الله؛ وهذا العجل سبق أنه عجل من ذهب، وأن الذي فتن الناس به رجل يقال له: السامري..
قوله تعالى: { فتوبوا إلى بارئكم } أي ارجعوا إليه من معصيته إلى طاعته؛ و "البارئ" : الخالق المعتني بخلقه؛ فكأنه يقول: كيف تتخذون العجل إلهاً وتَدَعون خالقكم الذي يعتني بكم؛ وهذا كقول إلياس عليه السلام لقومه: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين} [الصافات: 125، 126] ..
قوله تعالى: { فاقتلوا أنفسكم }: الفاء هنا تفسيرية؛ لأن قوله تعالى: { فاقتلوا } تفسير للمجمل في قوله تعالى: { توبوا }؛ وعلى هذا فالفاء للتفسير؛ أي: فتوبوا بهذا الفعل . وهو أن تقتلوا أنفسكم؛ أي ليقتل بعضكم بعضاً؛ وليس المعنى أن كل رجل يقتل نفسه . بالإجماع؛ فلم يقل أحد من المفسرين: إن معنى قوله تعالى: { فاقتلوا أنفسكم } أي يقتل كل رجل نفسه؛ وإنما المعنى: ليقتل بعضكم بعضاً: يقتل الإنسان ولده، أو والده، أو أخاه؛ المهم أنكم تستعدون، وتتخذون سلاحاً . خناجر، وسكاكين، وسيوفاً . وكل واحد منكم يهجم على الآخر، ويقتله..
واختلف المفسرون: هل هذا القتل وقع في ظلمة، أو وقع جهاراً بدون ظلمة؟ فقيل: إنهم لما أمروا بذلك قالوا: لا نستطيع أن يقتل بعضنا بعضاً وهو ينظر إليه: ينظر الإنسان إلى ابنه، فيقتله، وإلى أبيه، وإلى صديقه! هذا شيء لا يطاق؛ فألقى الله تعالى عليهم ظلمة، وصار يقتل بعضهم بعضاً، ولا يدري مَن قتل..
وقيل: بل إنهم قتلوا أنفسهم جهراً بدون ظلمة، وأن هذا أبلغ في الدلالة على صدق توبتهم، وأنه لما رأى موسى صلى الله عليه وسلم أنهم سينتهون . لأنه إذا قتل بعضهم بعضاً لن يبقى إلا واحد . ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنهم الإصر؛ فأمروا بالكف؛ وقيل: بل سقطت أسلحتهم من أيديهم . والله أعلم..
وظاهر القرآن أنه لم تكن هناك ظلمة، وأنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً عِياناً، وهذا أبلغ في الدلالة على صدق توبتهم، ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى..
وذهب بعضهم إلى أن المراد: أن يقتل البريء منكم المجرم . يعني الذين دعوا إلى عبادة العجل، وعكفوا عليه يُقتَلون؛ والذين تبرؤوا منه يَقتلون . والله أعلم..
ولكن الظاهر الأول؛ لأن قتل البريء للمجرم ليس فيه دلالة على صدق التوبة من المجرمين؛ لأن الإنسان قد يُقتل وهو مصرّ على الذنب؛ ولا يدل ذلك على توبته..
قوله تعالى: { ذلكم } المشار إليه قتل أنفسهم؛ { خير لكم عند بارئكم } أي من عدم التوبة؛ أو من عدم القتل؛ وهذا من التفضيل بما ليس في الطرف الآخر منه شيء؛ والتفضيل بما ليس في الطرف الآخر منه شيء وارد في اللغة العربية؛ لكن بعضهم يقول: إنه لا يكون بمعنى التفضيل؛ بل المراد به وجود الخير في هذا الأمر بدون وجود مفضَّل عليه..
قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لما قبلها؛ و{ هو } ضمير فصل؛ وسبق بيان فوائده؛ و{ التواب } أي كثير التوبة: لكثرة توبته على العبد الواحد، وكثرة توبته على التائبين الذين لا يحصيهم إلا الله، فهو يتوب في المرات المتعددة على عبده، ويتوب على الأشخاص الكثيرين الذين تكثر توبتهم؛
و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: أنه ينبغي للداعي إلى الله أن يستعمل الأسلوب الذي يجذب إليه الناس، ويعطفهم عليه؛ لقوله تعالى حكاية عن موسى: { يا قوم }؛ فإن هذا لا شك فيه من التودد، والتلطف، والتحبب ما هو ظاهر..
.2 ومنها: أن اتخاذ الأصنام مع الله ظلم؛ لقوله: { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل }..
.3ومنها: أن المعاصي ظلم للنفوس؛ وجه ذلك: أن النفس أمانة عندك؛ فيجب عليك أن ترعاها بأحسن رعاية، وأن تجنبها سوء الرعاية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إن لنفسك عليك حقا(104)ً" ..
.4 ومنها: أنه ينبغي التعبير بما يناسب المقام؛ لقوله: { فتوبوا إلى بارئكم }؛ لأن ذكر "البارئ" هنا كإقامة الحجة عليهم في أن العجل لا يكون إلهاً؛ فإن الذي يستحق أن يكون إلهاً هو البارئ . أي الخالق سبحانه وتعالى..
.5ومنها: وجوب التوبة؛ لقوله: ( فتوبوا إلى بارئكم )
.6 ومنها: أن التوبة على الفور؛ لقوله: { فتوبوا }؛ لأن الفاء للترتيب، والتعقيب..
.7 ومنها: إثبات الأسباب، وتأثيرها في مسبباتها؛ لقوله { باتخاذكم }: فإن الباء هنا للسببية..
.8 ومنها: أنه ينبغي للداعي إلى الله أن يبين الأسباب فيما يحكم به؛ لقوله: ( إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل )
.9 ومنها: سفاهة بني إسرائيل، حيث عبدوا ما صنعوا وهم يعلمون أنه لا يرجع إليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً، ولا نفعاً..
.10 ومنها: ما وضع الله تعالى على بني إسرائيل من الأغلال، والآصار، حيث كانت توبتهم من عبادة العجل أن يقتل بعضهم بعضاً؛ لقوله: { فاقتلوا أنفسكم }..
.11 ومنها: أن الأمة كنفس واحدة؛ وذلك لقوله: { فاقتلوا أنفسكم }؛ لأنهم ما أُمروا أن يقتل كل واحد منهم نفسه؛ بل يقتل بعضهم بعضاً؛ ونظير ذلك قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11] أي لا يلمز بعضكم بعضاً؛ وعبر عن ذلك بـ "النفس" ؛ لأن الأمة شيء واحد؛ فمن لمز أخاه فكمن لمز نفسه
.12 ومنها: تفاضل الأعمال؛ لقوله: (ذلكم خير لكم عند بارئكم )
.13 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يتوب على التائبين مهما عظم ذنبهم؛ لقوله تعالى: { فتاب عليكم }..
.14 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله . وهما { التواب }، و{ الرحيم }؛ وإثبات ما تضمناه من صفة . وهي: التوبة، والرحمة؛ وإثبات ما تضمناه من صفة باقترانهما . لا تكون عند انفراد أحدهما؛ لأنه لما اقترنا حصل من اجتماعهما صفة ثالثة . وهي: الجمع بين التوبة التي بها زوال المكروه، والرحمة التي بها حصول المطلوب..
.15 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتعرض لما يقتضيه هذان الاسمان من أسماء الله؛ فيتعرض لتوبة الله، ورحمته؛ فيتوب إلى ربه سبحانه وتعالى، ويرجو الرحمة؛ وهذا هو أحد المعاني التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحصاها" . أي أسماء الله التسعة والتسعين . "دخل الجنة"(105) ؛ فإن من إحصائها أن يتعبد الإنسان بمقتضاها..




 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:32 AM   #63
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:55) (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)
التفسير:
.{ 55 } قوله تعالى: { وإذ قلتم يا موسى } أي: واذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ قلتم...؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إنعامه على أول الأمة إنعام على آخرها؛ فصح توجيه الخطاب إلى المتأخرين مع أن هذه النعمة على من سبقهم..
قوله تعالى: { لن نؤمن لك } أي لن ننقاد، ولن نصدق، ولن نعترف لك بما جئت به..
قوله تعالى: { حتى نرى الله جهرة }: { نرى } بمعنى نبصر؛ ولهذا لم تنصب إلا مفعولاً واحداً؛ لأنها رؤية بصرية؛ واختلف العلماء متى كان هذا، على قولين:.
القول الأول: أن موسى صلى الله عليه وسلم اختار من قومه سبعين رجلاً لميقات الله، وذهب بهم؛ ولما صار يكلم الله، ويكلمه الله قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ فعلى هذا القول يكون صعقهم حينما كان موسى خارجاً لميقات الله..
القول الثاني: أنه لما رجع موسى من ميقات الله، وأنزل الله عليه التوراة، وجاء بها قالوا: "ليست من الله؛ { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }"..
والسياق يؤيد الثاني؛ لأنه تعالى قال: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان }، ثم ذكر قصة العجل، وهذه كانت بعد مجيء موسى بالتوراة، ثم بعد ذلك ذكر: { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }..
وأما قوله تعالى: {فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} [الأعراف: 155] فقد أيد بعضهم القول الأول بهذه الآية؛ ولكن الحقيقة ليس فيه تأييد لهم؛ لأنه تعالى قال: {فلما أخذتهم الرجفة} [الأعراف: 155] . رُجِفَ بهم؛ والأخرى: أخذتهم الصاعقة . صعقوا، وماتوا..
فالظاهر لي أن القول الأول لا يترجح بهذه الآية لاختلاف العقوبتين؛ هذه الآية كانت العقوبة بالصاعقة؛ وتلك كانت بالرجفة . والله أعلم..
قوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة } يعني الموت الذي صعقوا به؛ { وأنتم تنظرون } أي ينظر بعضكم إلى بعض حين تتساقطون؛ والجملة في قوله تعالى: { وأنتم تنظرون } حال من الكاف في قوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة } يعني: والحال أنكم تنظرون..
.{ 56 } قوله تعالى: { ثم بعثناكم من بعد موتكم }: أصل "البعث" في اللغة الإخراج؛ ويطلق على الإحياء، كما هذه الآية؛ ويدل على أن المراد به الإحياء هنا قوله تعالى: { من بعد موتكم }؛ وهو موت حقيقي، وليس نوماً، لأن النوم يسمى وفاة؛ ولا يسمى موتاً، كما في قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 60] ، وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]
وقوله تعالى: { بعثناكم من بعد موتكم }: هذه نعمة كبيرة عليهم أن الله تعالى أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال تعالى: { لعلكم تشكرون } أي تشكرون الله سبحانه وتعالى؛ و "لعل" هنا للتعليل..
وهذه إحدى الآيات الخمس التي في سورة البقرة التي فيها إحياء الله تعالى الموتى؛ والثانية: في قصة صاحب البقرة؛ والثالثة: في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: {موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243] ؛ والرابعة: في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه} [البقرة: 259] ؛ والخامسة في قصة إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي...} [البقرة: 260] الآية؛ والله تعالى على كل شيء قدير، ولا ينافي هذا ما ذكر الله في قوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15، 16] ؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها . كإخراج عيسى الموتى من قبورهم . تعتبر أمراً عارضاً يؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى؛ أما البعث العام فإنه لا يكون إلا يوم القيامة؛ ولهذا نقول في شبهة الذين أنكروا البعث من المشركين، ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38] ، ويقولون: {فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} [الدخان: 36] نقول: إن هؤلاء مموهون؛ فالرسل لم تقل لهم: إنكم تبعثون الآن؛ بل يوم القيامة؛ ولينتظروا، فسيكون هذا بلا ريب..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: تذكير الله تعالى بني إسرائيل بنعمته عليهم، حيث بعثهم من بعد موتهم.
2 . ومنها: سفاهة بني إسرائيل؛ وما أكثر ما يدل على سفاهتهم؛ فهم يؤمنون بموسى، ومع ذلك قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }.
3 . ومنها: أن من سأل ما لا يمكن فهو حري بالعقوبة؛ لقوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة }؛ لأن الفاء تدل على السببية . ولا سيما في مثل حال هؤلاء الذين قالوا هذا عن تشكك؛ وفرْق بين قول موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ، وبين قول هؤلاء: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ فموسى قال ذلك شوقاً إلى الله عزّ وجلّ، وليتلذذ بالرؤية إليه؛ أما هؤلاء فقالوه تشككاً . يعني: لسنا بمؤمنين إلا إذا رأيناه جهرة؛ ففرق بين الطلبين.
4 . ومن فوائد الآيتين: أن ألم العقوبة، ووقعها إذا كان الإنسان ينظر إليها أشد؛ لقوله تعالى: { وأنتم تنظرون }؛ فإن الإنسان إذا رأى الناس يتساقطون في العقوبة يكون ذلك أشد وقعاً عليه.
5 . ومنها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث أحياهم بعد الموت؛ لقوله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم }.
6 . ومنها: وجوب الشكر على من أنعم الله عليه بنعمة؛ لقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }؛ والشكر هو القيام بطاعة المنعم إقراراً بالقلب، واعترافاً باللسان، وعملاً بالأركان؛ فيعترف بقلبه أنها من الله، ولا يقول: إنما أوتيته على علم عندي؛ كذلك أيضاً يتحدث بها بلسانه اعترافاً . لا افتخاراً؛ وكذلك أيضاً يقوم بطاعة الله سبحانه وتعالى بجوارحه؛ وبهذه الأركان الثلاثة يكون الشكر؛ وعليه قول الشاعر:
(أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا) 7 . ومن فوائد الآيتين: إثبات الحكمة لله تعالى: لقوله: { لعلكم تشكرون }؛ فإن "لعل" هنا للتعليل المفيد للحكمة..

القـرآن
)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة:57)
التفسير:
.{ 57 } قوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام } أي جعلناه ظلاً عليكم؛ وكان ذلك في التيه حين تاهوا؛ وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ وما كان عندهم ماء، ولا مأوى؛ ولكن الله تعالى رحمهم، فظلل عليه الغمام؛ و{ الغمام } هو السحاب الرقيق الأبيض؛ وقيل: السحاب مطلقاً؛ وقيل: السحاب البارد الذي يكون به الجو بارداً، ويتولد منه رطوبة، فيبرد الجو . وهذا هو الظاهر..
قوله تعالى: { وأنزلنا عليكم المن }: يقولون: { المن } شيء يشبه العسل؛ ينْزل عليهم بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس؛ فإذا قاموا أكلوا منه؛ { والسلوى }: طائر ناعم يسمى "السُّمَانَى"، أو هو شبيه به؛ وهو من أحسن ما يكون من الطيور، وألذه لحماً..
قوله تعالى: { كلوا } الأمر هنا للإباحة؛ يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن، والسلوى؛ { من طيبات ما رزقناكم }: { مِنْ } هنا لبيان الجنس؛ وليست للتبعيض؛ لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات..
قوله تعالى: { وما ظلمونا } أي ما نقصونا شيئاً؛ لأن الله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين..
قوله تعالى: { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }: { أنفسهم } مفعول مقدم لـ{ يظلمون }؛ وقُدِّم لإفادة الحصر . أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم؛ أما الله . تبارك وتعالى . فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم..

الفوائد:
.1 من فوائد الآية: نعمة الله تبارك وتعالى بما هيأه لعباده من الظلِّ؛ فإن الظلّ عن الحرّ من نعم الله على العباد؛ ولهذا ذكره الله عزّ وجلّ هنا ممتناً به على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام }، وقوله تعالى: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا} [النحل: 81] ..
.2 ومنها: أن الغمام يسير بأمر الله عزّ وجلّ، حيث جعل الغمام ظلاً على هؤلاء..
.3 . ومنها: بيان نعمة الله على بني إسرائيل بما أنزل عليهم من المن، والسلوى . يأتيهم بدون تعب، ولا مشقة؛ ولهذا وصف بـ "المن" ..
.4 ومنها: أن لحم الطيور من أفضل اللحوم؛ لأن الله تعالى هيأ لهم لحوم الطير . وهو أيضاً لحوم أهل الجنة، كما قال تعالى: {ولحم طير مما يشتهون} (الواقعة: 21)
.5 ومنها: أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها، ولا يحرم نفسه منها؛ لقوله تعالى:
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 57] ؛ فإن الإنسان لا ينبغي أن يتعفف عن الشيء المباح؛ ولهذا قال شيخ الإسلام . رحمه الله: "من امتنع من أكل الطيبات لغير سبب شرعي فهو مذموم"؛ وهذا صحيح؛ لأنه ترك ما أباح الله له وكأنه يقول: إنه لا يريد أن يكون لله عليه منة؛ فالإنسان لا ينبغي أن يمتنع عن الطيبات إلا لسبب شرعي؛ والسبب الشرعي قد يكون لسبب يتعلق ببدنه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بدينه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بغيره؛ فقد يمتنع الإنسان عن اللحم؛ لأن بدنه لا يقبله، فيكون تركه له من باب الحمية؛ وقد يترك الإنسان اللحم، لأنه يخشى أن تتسلى به نفسه حتى يكون همه أن يُذهب طيباته في حياته الدنيا؛ وقد يترك الإنسان الطيب من الرزق مراعاة لغيره، مثل ما يذكر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة . عام الجدب المشهور . أنه كان لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى اسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع(106) ؛ فيكون تركه لذلك مراعاة لغيره؛ إذاً من امتنع من الطيبات لسبب شرعي فليس بمذموم..
.6 ومنها: أن المباح من الزرق هو الطيب؛ لقوله تعالى: ( كلوا من طيبات ).
.7 ومنها: تحريم أكل الخبيث، والخبيث نوعان: خبيث لذاته؛ وخبيث لكسبه؛ فالخبيث لذاته كالميتة، والخنْزير، والخمر، وما أشبهها، كما قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنْزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] أي نجس خبيث؛ وهذا محرم لذاته؛ محرم على جميع الناس؛ وأما الخبيث لكسبه فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسبه، وليس محرماً على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب..
.8 ومن فوائد الآية: أن بني إسرائيل كفروا هذه النعمة؛ لقوله تعالى: ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
.9 ومنها: أن العاصي لا يضر الله شيئاً؛ وإنما يظلم نفسه..
القـرآن
)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:58) )فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة:59)
التفسير:
.{ 58 } قوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلنا ادخلوا هذه القرية؛ و{ ادخلوا } أمر كوني، وشرعي؛ لأنهم أُمروا بأن يدخلوها سجداً وهذا أمر شرعي؛ ثم فُتحت، فدخلوها بالأمر الكوني..
واختلف المفسرون في تعيين هذه القرية ؛ والصواب أن المراد بها: بيت المقدس؛ لأن موسى قال لهم: { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] ؛ و{ القرية } هي البلد المسكون؛ مأخوذة من القرْي. وهو التجمع؛ وسميت البلاد المسكونة قرية لتجمع الناس بها؛ ومفهوم القرية في اللغة العربية غير مفهومها في العرف؛ لأن مفهوم القرية في العرف: البلد الصغير؛ وأما الكبير فيسمى مدينة؛ ولكنه في اللغة العربية . وهي لغة القرآن . لا فرق بين الصغير، والكبير؛ فقد سمى الله عزّ وجلّ مكة قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} [محمد: 13] : المراد بقريته التي أخرجته: مكة، وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7] : فسمى مكة أم القرى وهو شامل للبلاد الصغيرة، والكبيرة..
قوله تعالى: { فكلوا منها }: الأمر للإباحة أي فأبحنا لكم أن تأكلوا منها؛ { حيث شئتم } أي في أي مكان كنتم من البلد في وسطها، أو أطرافها تأكلون ما تشاءون؛ { رغداً } أي طمأنينة، وهنيئاً لا أحد يعارضكم في ذلك، ولا يمانعكم..
قوله تعالى: { وادخلوا الباب } أي باب القرية؛ لأن القرى يجعل لها أبواب تحميها من الداخل، والخارج؛ { سجداً } منصوب على أنه حال من الواو في قوله تعالى: { ادخلوا } أي ساجدين؛ والمعنى: إذا دخلتم فاسجدوا شكراً لله؛ وعلى هذا فالحال ليست مقارنة لعاملها؛ بل هي متأخرة عنه..
قوله تعالى: { وقولوا حطة } أي قولوا هذه الكلمة: { حطة } أي احطط عنا ذنوبنا، وأوزارنا؛ فهي بمعنى قولوا: ربنا اغفر لنا؛ والمراد: اطلبوا المغفرة من الله سبحانه وتعالى إذا دخلتم، وسجدتم؛ و{ حطة } خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: سؤالنا حطة، أو حاجتنا حطة . أي أن تحط عنا ذنوبنا؛ والجملة من المبتدأ، والخبر في محل نصب مقول القول..
قوله تعالى: { نغفر لكم } بنون مفتوحة، وفاء مكسورة؛ وفي قراءة: { تُغفَر لكم } بتاء مضمومة، وفاء مفتوحة؛ وفي قراءة ثالثة: { يُغفَر } بياء مضمومة وفاء مفتوحة؛ وكلها قراءات صحيحة؛ بأيها قرأت أجزأك..
وقوله تعالى: { نغفر لكم خطاياكم }: "المغفرة" هي ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ ومعناه أن الله ستر ذنبك، ويتجاوز عنك، فلا يعاقبك؛ لأن "المغفرة" مأخوذة من المغفر . وهو ما يوقى به الرأس في الحرب؛ لأنه يستر، ويقي؛ ومن فسر "المغفرة" بمجرد الستر فقد قصَّر؛ لأن الله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وقرره بذنوبه قال: "قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"(107) أي اليوم أسترها أيضاً، ثم أتجاوز عنها؛ و{ خطاياكم } جمع خَطِيَّة، كـ"مطايا" جمع مطية؛ و "الخطية" ما يرتكبه الإنسان من المعاصي عن عمد؛ وأما ما يرتكبه عن غير عمد فيسمى "أخطاء"؛ ولهذا يفرق بين "مخطئ"، و"خاطئ"؛ الخاطئ ملوم؛ والمخطئ معذور، كما قال الله تعالى: { لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة } [العلق: 15، 16] ، وقال تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (البقرة: 286)
قوله تعالى: { وسنزيد } أي سنعطي زيادة على مغفرة الذنوب { المحسنين } أي الذين يقومون بالإحسان، و "الإحسان" نوعان:.
الأول: إحسان في عبادة الله؛ وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك(108)" ..
والنوع الثاني: إحسان في معاملة الخلق وهو بذل المعروف، وكفُّ الأذى..
.{ 59 } قوله تعالى: { فبدل الذين ظلموا } أي فاختار الذين ظلموا منهم على وجه التبديل، والمخالفة { قولاً غير الذي قيل لهم }: وذلك أنهم قالوا: "حنطة في شعيرة" بدلاً عن قولهم: "حطة" ..
وفي قوله تعالى: { فبدَّل الذين ظلموا } إظهار في موضع الإضمار؛ ومقتضى السياق أن يكون بلفظ: فبدلوا قولاً.. إلخ، وللإظهار في موضع الإضمار فوائد من أهمها:.
أولاً: تحقيق اتصاف محل المضمر بهذا الوصف؛ معنى ذلك: الحكم على هؤلاء بالظلم..
ثانياً: أن هذا مقياس لغيرهم أيضاً؛ فكل من بدل القول الذي قيل له فهو ظالم؛ فيؤخذ منه تعميم الحكم بعموم علة الوصف..
ثالثاً: التنبيه أعني تنبيه المخاطب؛ لأنه إذا جاء الكلام على خلاف السياق انتبه المخاطب..
قوله تعالى: { فأنزلنا } الفاء للسببية؛ والمعنى: فبسبب ما حصل منهم من التبديل أنزلنا { على الذين ظلموا } أي عليهم؛ { رجزاً } أي عذاباً؛ لقوله تعالى: {لئن كشفت عنا الرجز} [الأعراف: 134] . أي العذاب . {لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} [الأعراف: 134] ، والعذاب غير الرجس؛ لأن الرجس النجس القذر؛ والرجز: العذاب، { من السماء } أي من فوقهم، كالحجارة، والصواعق، والبَرَد، والريح، وغيرها؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلوّ، ولا يلزم أن يكون المراد بها السماء المحفوظة؛ لأن كل ما علا فهو سماء ما لم يوجد قرينة كما في قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء: 3]
قوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }: الباء هنا للسببية . أي بسبب؛ و "ما" مصدرية . أي بكونهم فسقوا؛ وإذا كانت مصدرية فإنه يحول ما بعدها من الفعل، أو الجملة إلى مصدر؛ و{ كانوا }: هل المراد فيما مضى؛ أم المراد تحقيق اتصافهم بذلك؟ الجواب: الثاني؛ وهذا يأتي في القرآن كثيراً؛ و{ يفسقون } أي يخرجون عن طاعة الله عزّ وجلّ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا }؛ وهو قول حقيقي بصوت، وبحرف؛ لكن صوته سبحانه وتعالى لا يشبهه صوت من أصوات المخلوقين؛ ولا يمكن للإنسان أن يدرك هذا الصوت؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] ؛ وهكذا جميع صفات الله عزّ وجلّ لا يمكن إدراك حقائقها..
.2 ومنها: وعد الله لهم بدخولها؛ ويؤخذ هذا الوعد من الأمر بالدخول؛ فكأنه يقول: فتحنا لكم الأبواب فادخلوا..
.3 ومنها: جواز أكل بني إسرائيل من هذه القرية التي فتحوها؛ فإن قال قائل: أليس حِلّ الغنائم من خصائص هذه الأمة . أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: بلى، والإذن لبني إسرائيل أن يأكلوا من القرية التي دخلوها ليس على سبيل التمليك؛ بل هو على سبيل الإباحة؛ وأما حِلّ الغنائم لهذه الأمة فهو على سبيل التمليك..
.4 ومنها: أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الخضوع، والشكر لله؛ لقوله تعالى: { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة }؛ ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخلها مطأطئاً رأسه(109) يقرأ قول الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1] ..
.5ومنها: لؤم بني إسرائيل، ومضادَتُهم لله، ورسله؛ لأنهم لم يدخلوا الباب سجداً؛ بل دخلوا يزحفون على أستاههم على الوراء استكباراً واستهزاءً..
.6 ومنها: بيان قبح التحريف سواء كان لفظياً، أو معنوياً؛ لأنه يغير المعنى المراد بالنصوص..
.7 ومنها: أن الجهاد مع الخضوع لله عزّ وجلّ، والاستغفار سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: { نغفر لكم خطاياكم }، وسبب للاستزادة أيضاً من الفضل؛ لقوله تعالى: { وسنزيد المحسنين }..
.8 ومنها: أن الإحسان سبب للزيادة سواء كان إحساناً في عبادة الله، أو إحساناً إلى عباد الله؛ فإن الإحسان سبب للزيادة؛ وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(110) ؛ وقال: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته(111)" ..
.9 ومنها: تحريم التبديل لكلمات الله وهو تحريفها؛ وأنه من الظلم، لقوله تعالى:( فبدل الذين ظلموا قولًا )
.10 ومنها: بيان عقوبة هؤلاء الظالمين، وأن الله أنزل عليهم الرجز من السماء..
.11 ومنها: الإشارة إلى عدل الله عزّ وجلّ، وأنه لا يظلم أحداً، وأن الإنسان هو الظالم لنفسه..
.12 ومنها: إثبات فسوق هؤلاء بخروجهم عن طاعة الله؛ والفسق نوعان: فسق أكبر مخرج عن الملة، وضده "الإيمان" ، كما في قوله تعالى: {وأمَّا الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة: 20] ؛ و فسق أصغر لا يخرج عن الملة، وضده "العدالة" ، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6)
.13 ومنها: إثبات الأسباب، وتأثيرها في مسبَّباتها؛ لقوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }..
.14 ومنها: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الله سبحانه وتعالى مجبر العبد على عمله؛ ووجه الرد أن الله سبحانه وتعالى أضاف الفسق إليهم؛ والفسق هو الخروج عن الطاعة؛ والوجه الثاني: أنهم لو كانوا مجبرين على أعمالهم لكان تعذيبهم ظلماً، والله . تبارك وتعالى . يقول: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49].
.15 ومنها: أن الفسوق سبب لنُزول العذاب..


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:33 AM   #64
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60)
التفسير:
.{ 60 } قوله تعالى: { وإذا استسقى موسى لقومه } أي: واذكر إذ استسقى موسى لقومه . أي طلب السقيا لهم؛ وهذا يعم كونهم في التيه، وغيره..
قوله تعالى: { فقلنا اضرب بعصاك الحجر }: "العصا" معروفة؛ و{ الحجر }: المراد به الجنس؛ فيشمل أيّ حجر يكون؛ وهذا أبلغ من القول بأنه حجر معين؛ وهذه "العصا" كان فيها أربع آيات عظيمة:.
أولاً: أنه يلقيها، فتكون حية تسعى، ثم يأخذها، فتعود عصا..
ثانياً: أنه يضرب بها الحجر، فينفجر عيوناً..
ثالثاً: أنه ضرب بها البحر، فانفلق؛ فكان كل فرق كالطود العظيم..
رابعاً: أنه ألقاها حين اجتمع إليه السحرة، وألقوا حبالهم، وعصيهم، فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون..
قوله تعالى: { فانفجرت منه }؛ "الانفجار": الانفتاح، والانشقاق؛ ومنه سمي "الفجر"؛ لأنه ينشق به الأفق؛ فمعنى { انفجرت } أي تشققت منه هذه العيون..
قوله تعالى: { اثنتا عشرة عيناً }؛ { عيناً }: تمييز؛ وكانت العيون اثنتي عشرة؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة أسباطاً؛ لكل سبط واحدة..
قوله تعالى: { قد علم كل أناس } أي من الأسباط { مشربهم } أي مكان شربهم، وزمانه حتى لا يختلط بعضهم ببعض، ويضايق بعضهم بعضاً..
وهذه من نعمة الله على بني إسرائيل؛ وهي من نعمة الله على موسى؛ أما كونها نعمة على موسى فلأنها آية دالة على رسالته؛ وأما كونها نعمة على بني إسرائيل فلأنها مزيلة لعطشهم، ولظمئهم..
قوله تعالى: { كلوا واشربوا } الأمر هنا للإباحة فيما يظهر؛ { من رزق الله } أي من عطائه، حيث أخرج لكم من الثمار، ورزقكم من المياه..
قوله تعالى: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي لا تسيروا مفسدين؛ فنهاهم عن الإفساد في الأرض؛ فـ"العُثو"، و"العِثي" معناه الإسراع في الإفساد؛ والإفساد في الأرض يكون بالمعاصي، كما قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41].
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: مشروعية الاستسقاء عند الحاجة إلى الماء؛ لأن موسى استسقى لقومه؛ وشرع من قبلنا شرع لنا إن لم يرد شرعنا بخلافه؛ فكيف وقد أتى بوفاقه؟! فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي في خطبة الجمعة(112) ، ويستسقي في الصحراء على وجه معلوم(113) ..
.2 ومنها: أن السقيا كما تكون بالمطر النازل من السماء تكون في النابع من الأرض..
.3ومنها: أن الله سبحانه وتعالى هو الملجأ للخلق؛ فهم إذا مسهم الضر يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى..
.4 ومنها: أن الرسل . عليهم الصلاة والسلام . كغيرهم في الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى؛ فلا يقال: إن الرسل قادرون على كل شيء، وأنهم لا يصيبهم السوء..
.5ومنها: رأفة موسى بقومه؛ لقوله تعالى: { وإذا استسقى موسى لقومه }..
.6 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى قادر جواد؛ ولهذا أجاب الله تعالى دعاء موسى؛ لأن العاجز لا يسقي؛ والبخيل لا يعطي..
.7 ومنها: إثبات سمع الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: { فقلنا }؛ لأن الفاء هنا للسببية؛ يعني: فلما استسقى موسى قلنا؛ فدل على أن الله سمع استسقاء موسى، فأجابه..
.8 . ومنها: كمال قدرة الله عزّ وجلّ، حيث إن موسى صلى الله عليه وسلم يضرب الحجر اليابس بالعصا، فيتفجر عيوناً؛ وهذا شيء لم تجر العادة بمثله؛ فهو دليل على قدرة الله عزّ وجلّ، وأنه ليس كما يزعم الطبائعيون بأنه طبيعة؛ إذ لو كانت الأمور بالطبيعة ما تغيرت، وبقيت على ما هي عليه..
.9 ومنها: الآية العظيمة في عصا موسى، حيث يضرب به الحجر، فيتفجر عيوناً مع أن الحجر صلب، ويابس؛ وقد وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم، حيث أُتي إليه بإناء فيه ماء، فوضع يده فيه، فصار يفور من بين أصابعه كالعيون(114) ؛ ووجه كونه أعظم: أنه ليس من عادة الإناء أن يتفجر عيوناً بخلاف الحجارة؛ فقد قال الله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] ؛ ووجه آخر: أن الإناء منفصل عن الأرض لا صلة له بها بخلاف الحجارة..
.10 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى بجعل هذا الماء المتفجر اثنتي عشرة عيناً؛ لفائدتين:.
الفائدة الأولى: السعة على بني إسرائيل؛ لأنه لو كان عيناً واحدة لحصلت مشقة الزحام..
الفائدة الثانية: الابتعاد عن العداوة، والبغضاء بينهم؛ لأنهم كانوا اثنتي عشرة أسباطاً؛ فلو كانوا جُمعوا في مكان واحد مع الضيق، والحاجة إلى الماء لحصل بينهم نزاع شديد؛ وربما يؤدي إلى القتال؛ فهذا من رحمة الله . تبارك وتعالى . ببني إسرائيل، حيث فجره اثنتي عشرة عيناً، ولهذا أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه النعمة بقوله: { قد علم كل أناس مشربهم }: كل أناس من بني إسرائيل..
.11 من فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يذكِّر بني إسرائيل بهذه النعم العظيمة لأجل أن يقوموا بالشكر؛ ولهذا قال تعالى: ( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
.12 ومنها: أن ما خلق الله تعالى من المأكول، والمشروب للإنسان فالأصل فيه الإباحة، والحل؛ لأن الأمر للإباحة؛ فما أخرج الله تعالى لنا من الأرض، أو أنزل من السماء فالأصل فيه الحل؛ فمن نازع في حل شيء منه فعليه الدليل؛ فالعبادات الأصل فيها الحظر؛ وأما المعاملات، والانتفاعات بما خلق الله فالأصل فيها الحل، والإباحة..
.13 ومنها: تحريم الإفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ والأصل في النهي التحريم..
القـرآن
)وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة:61)
التفسير:
.{ 61 } قوله تعالى: { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد }؛ المن، والسلوى من أحسن الأطعمة، وأنفعها للبدن، وألذّها مذاقاً، ومن أحسن ما يكون؛ لكن بني إسرائيل لدناءتهم لم يصبروا على هذا؛ قالوا: { لن نصبر على طعام واحد }: لا نريد المن، والسلوى فقط؛ نريد أطعمة متعددة؛ ولكنها أطعمة بالنسبة للتي رُزِقوها أدنى . يعني ليست مثلها؛ بل إنها تعتبر رديئة جداً بالنسبة لهذا..
فإن قال قائل: كيف يقولون: طعام واحد وهما طعامان: المن، والسلوى؟
فالجواب: أن المن في الغالب يستعمل في الشرب؛ فهو ينبذ في الماء، ويشرب؛ أو يقال: المراد بالطعام هنا الجنس؛ يعني: لا نصبر على هذا الجنس فقط . ليس عندنا إلا منّ وسلوى..
قوله تعالى: { فادع لنا ربك }: هذا توسل منهم بموسى ليدعو الله عزّ وجلّ لهم؛ وكلمة: { فادع لنا ربك } تدل على جفاء عظيم منهم؛ فهم لم يقولوا: "ادع لنا ربنا"، أو "ادع الله"؛ بل قالوا: "ادع لنا ربك" ، كأنهم بريئون منه . والعياذ بالله؛ وهذا من سفههم، وغطرستهم، وكبريائهم..
قوله تعالى: { يخرج لنا }؛ { يخرج } فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الطلب: "ادع" ؛ أو جواب لشرط محذوف؛ والتقدير: إن تدعه يخرج لنا..
قوله تعالى: { مما تنبت الأرض } أي مما تخرجه..
قوله تعالى: { من بقلها }؛ { من } بيانية؛ بينت الاسم الموصول: { ما }؛ لأن الاسم الموصول مبهم يحتاج إلى بيان؛ و{ بقلها }: هو النبات الذي ليس له ساق، مثل الكراث؛ { وقثائها }: هي صغار البطيخ؛ { وفومها } هو الثُّوم؛ يقال: "ثوم" بالمثلثة؛ ويقال: "فوم" بالفاء الموحدة، { وعدسها }؛ "العدس" معروف؛ { وبصلها }: أيضاً معروف..
وكل هذه بالنسبة للمن، والسلوى ليست بشيء؛ ولهذا أنكر عليهم موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }، أي أتأخذون الذي هو أدنى بدلاً عن الذي هو خير..
قوله تعالى: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } يعني أن هذا ليس بصعب يحتاج إلى دعاء الله؛ لأن الله تعالى أوجده في كل مصر؛ وكأن موسى صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم هذا؛ وبين لهم أنه لا يليق به أن يسأل الله سبحانه وتعالى لهم ما هو أدنى وموجود في كل مصر؛ وأما قول من قال من المفسرين: "إنه دعا، وقيل له: قل لهم: يهبطون مصراً فإن لهم ما سألوا" فهذا ليس بصحيح؛ لأنه كيف ينكر عليهم أن يطلبوا ذلك منه، ثم هو يذهب، ويدعو الله به!!! فالصواب أن موسى وبَّخهم على ما سألوا، وأنكر عليهم، وقال لهم: إن هذا الأمر الذي طلبتم موجود في كل مصر؛ ولهذا قال: { اهبطوا مصراً }؛ و{ مصراً } ليست البلد المعروف الآن، ولكن المقصود أيّ مصر كانت؛ ولهذا نُكِّرت؛ و"مصر" البلد لا تنكَّر، ولا تنصرف؛ واقرأ قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً} [يونس: 87] ؛ فالمعنى: اهبطوا أيّ مصر من الأمصار تجدون ما سألتم..
قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة }؛ وفي قوله تعالى: { عليهم } ثلاث قراءات: كسر الهاء وضم الميم؛ وكسرها جميعاً؛ وضمهما جميعاً..
قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة }: جملة مستأنفة إخبار من الله عزّ وجلّ بما حصل عليهم؛ و{ الذلة }: الهوان؛ فهم أذلة لا يقابلون عدواً، وقد قال الله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} [الحشر: 14] و{ المسكنة }: الفقر؛ فليس عندهم شجاعة، ولا غنًى؛ لا كرم بالمال، ولا كرم بالنفس؛ فـ"الشجاعة" كرم بالنفس: بأن يجود الإنسان بنفسه لإدراك مقصوده؛ و"الكرم" جود بالمال؛ فلم يحصل لهم هذا، ولا هذا؛ فلا توجد أمة أفقر قلوباً، ولا أبخل من اليهود، فالأموال كثيرة، لكن قلوبهم فقيرة، وأيديهم مغلولة..
قوله تعالى: { وباءوا بغضب من الله } أي رجعوا؛ والباء للمصاحبة؛ و{ من } للابتداء؛ يعني الغضب من الله . أي أن الله غضب عليهم، كما قال تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} [المائدة: 60] ..
قوله تعالى: { ذلك }: الظاهر أن المشار إليه كل ما سبق، وليس فقط قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة...}؛ فكل ما سبق مشار إليه حتى سؤالهم الذي هو أدنى عن الذي هو خير؛ {بأنهم}: الباء للسببية؛ {كانوا يكفرون بآيات الله } أي يكذبون بها؛ والمراد الآيات الكونية، والشرعية؛ فالشرعية تتعلق بالعبادة؛ والكونية تتعلق بالربوبية، فهم يكفرون بهذا، وبهذا..
قوله تعالى: { ويقتلون النبيين } أي يعتدون عليهم بالقتل؛ وفي قوله تعالى: { النبيين } قراءتان؛ الأولى: بتشديد الياء بدون همز: { النبيِّين }؛ والثانية: بتخفيف الياء، والهمز: { النبيئين } ؛ فعلى القراءة الأولى قيل: إنه مشتق من النَّبْوَة . وهو الارتفاع؛ لارتفاع منْزلة الأنبياء؛ وقيل: من النبأ، وأبدلت الهمزة ياءً تخفيفاً؛ وعلى القراءة الثانية فإنه مشتق من النبأ، لأن الأنبياء مخبرون عن الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى { بغير الحق } أي بالباطل المحض؛ وهذا القيد لبيان الواقع، وللتشنيع عليهم بفعلهم؛ لأنه لا يمكن قتل نبي بحق أبداً..
قوله تعالى: { ذلك }: المشار إليه ما سبق من كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق؛ { بما عصوا }: الباء للسببية؛ و "المعصية" الخروج عن الطاعة إما بترك المأمور؛ وإما بفعل المحظور؛ { وكانوا يعتدون } معطوف على قوله تعالى: { بما عصوا }؛ و "الاعتداء" مجاوزة الحد إما بالامتناع عما يجب للغير؛ أو بالتعدي عليه..
والفرق بين "المعصية" ، و "العدوان" إذا ذكرا جميعاً: أن "المعصية" فعل ما نهي عنه؛ و "الاعتداء" تجاوز ما أُمِر به، مثل أن يصلي الإنسان الظهر مثلاً خمس ركعات؛ وقيل: إن "المعصية" ترك المأمور؛ و "العدوان" فعل المحظور..
وسواء أكان هذا أم هذا فالمهم أن هؤلاء اعتدوا، وعصوا؛ فلم يقوموا بالواجب، ولا تركوا المحرم؛ ولذلك تدرجت بهم الأمور حتى كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه؛ وفي ذلك دليل لما ذهب إليه بعض أهل العلم أن المعاصي بريد الكفر؛ فالإنسان إذا فعل معصية استهان بها، ثم يستهين بالثانية، والثالثة... وهكذا حتى يصل إلى الكفر؛ فإذا تراكمت الذنوب على القلوب حالت بينها، وبين الهدى، والنور، كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 14])
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: لؤم بني إسرائيل، وسفههم؛ حيث إنهم طلبوا أن يغير لهم الله هذا الرزق الذي لا يوجد له نظير بقولهم: ( لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثَّائها وفومها وعدسها وبصلها )
.2 ومنها: غطرسة بني إسرائيل، وجفاؤهم؛ لقولهم: { ادع لنا ربك }؛ ولم يقولوا: "ادع لنا ربنا"، أو: "ادع لنا الله"؛ كأن عندهم . والعياذ بالله . أنفة؛ مع أنهم كانوا مؤمنين بموسى ومع ذلك يقولون: { ادع لنا ربك } . كما قالوا: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ..
.3 ومنها: أن من اختار الأدنى على الأعلى ففيه شبه من اليهود؛ ومن ذلك هؤلاء الذين يختارون الشيء المحرم على الشيء الحلال..
.4 ومنها: أن من علوّ همة المرء أن ينظر للأكمل، والأفضل في كل الأمور..
.5 ومنها: أن التوسع في المآكل، والمشارب، واختيار الأفضل منها إذا لم يصل إلى حد الإسراف فلا ذم فيه؛ ولذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه حين أتوه بتمر جيد بدلاً عن الرديء(115) ؛ لكن لو ترك التوسع في ذلك لغرض شرعي فلا بأس كما فعله عمر رضي الله عنه عام الرمادة؛ وأما إذا تركها لغير غرض شرعي فهو مذموم؛ لأن الله تعالى يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه(116).
.6 ومن فوائد الآية: حِلّ البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل؛ لقولهم: { ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض... } إلى قوله: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } أي من الأصناف المذكورة..
وهذه الأصناف مباحة في شريعة موسى؛ وكذلك في شريعتنا؛ فإنه لما قُدِّم للرسول صلى الله عليه وسلم قدر فيه بقول فكره أكلها؛ فلما رآه بعض أصحابه كره أكلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم "كل؛ فإني أناجي من لا تناجي"(117) ؛ فأباحها لهم؛ وكذلك في خيبر لما وقع الناس في البصل، وعلموا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لها قالوا: حُرّمت؛ قال صلى الله عليه وسلم "إنه ليس بي تحريم ما أحل الله"(118) ؛ فبين أنه حلال..
.7ومن فوائد الآية: جواز إسناد الشيء إلى مكانه لا إلى الفاعل الأول؛ لقولهم { مما تنبت الأرض }؛ والذي ينبت حقيقة هو الله سبحانه وتعالى..
.8 ومنها: جواز إسناد الشيء إلى سببه الحقيقي الذي ثبت أنه سبب شرعاً، أو حساً؛ مثال ذلك: لو أطعمت جائعاً يكاد يموت من الجوع فإنه يجوز أن تقول: "لولا أني أطعمته لهلك"؛ لأن الإطعام سبب لزوال الجوع؛ والهلاك معلوم بالحس؛ ومثال الشرعي: القراءة على المريض، فيبرأ، فتقول: "لولا القراءة عليه لم يبرأ"؛ أما المحظور فهو أن تثبت سبباً غير ثابت شرعاً، ولا حساً، أو تقرن مشيئة الله بالسبب بحرف يقتضي التسوية مع الله عزّ وجلّ؛ مثال الأول: أولئك الذين يعلقون التمائم البدعية، أو يلبسون حلقاً، أو خيوطاً لدفع البلاء، أو رفعه . كما زعموا؛ و مثال الثاني: ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: "ما شاء الله وشئت"، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده"(119) ، لأنك إذا قلت: "ما شاء الله وشئت" جعلت المخاطَب ندًّا لله في المشيئة..
فإذا قال قائل: أليس الله قد ذم قارون حينما قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] ؛ فنسب حصول هذا المال إلى العلم؛ وهذا قد يكون صحيحاً؟
فالجواب أن هذا الرجل أنكر أن يكون من الله ابتداءً؛ ومعلوم أن الإنسان إذا أضاف الشيء إلى سببه دون أن يعتقد أن الله هو المسبِّب فهو مشرك؛ وأيضاً فإن قارون أراد بقوله هذا أن يدفع وجوب الإنفاق عليه مبتغياً بذلك الدار الآخرة..
والخلاصة: أن الحادث بسبب معلوم له صور:.
الصورة الأولى: أن يضيفه إلى الله وحده..
الثانية: أن يضيفه إلى الله تعالى مقروناً بسببه المعلوم؛ مثل أن يقول: "لولا أن الله أنجاني بفلان لغرقت"..
الثالثة: أن يضيفه إلى السبب المعلوم وحده مع اعتقاد أن الله هو المسبِّب؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب لما ذكر عذابه: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار(120)" ..
الرابعة : أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب المعلوم بـ"ثم"، كقوله: "لولا الله ثم فلان"؛ "وهذه الأربع كلها جائزة" ..
الصورة الخامسة: أن يضيفه إلى الله، وإلى السبب المعلوم مقروناً بالواو؛ فهذا شرك، كقوله: "لولا الله وفلان
الصورة السادسة: أن يضيفه إلى الله ، وإلى السبب المعلوم مقروناً بالفاء، مثل: "لولا الله ففلان"؛ فهذا محل نظر: يحتمل الجواز، ويحتمل المنع..
الصورة السابعة: أن يضيفه إلى سبب موهوم ليس بثابت شرعاً، ولا حساً، فهذا شرك . كما سبق ..
.9 ومن فوائد الآية: توبيخ موسى عليه السلام لبني إسرائيل، وأن الذي يستبدل الأدنى بالذي هو خير يستحق التوبيخ؛ لأن موسى وبخهم، حيث قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )
.10 ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يعتذر عن الوساطة إذا لم يكن لها داعٍ؛ لأنه قال: { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم }؛ وكأنه قال: لا حاجة أن أدعو الله أن يخرج لكم مما تنبت الأرض..
.11 ومنها: ضرب الذلة على بني إسرائيل؛ وقد ذكر الله تعالى أنهم ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله . وهو الإسلام؛ أو بحبل من الناس وهو المساعدات الخارجية؛ والمشاهد الآن أن اليهود أعزاء بما يساعدهم إخوانهم من النصارى..
.12 ومنها: أن اليهود قد ضربت عليهم المسكنة وهي الفقر؛ ويشمل فقر القلوب الذي هو شدة الطمع بحيث أن اليهودي لا يشبع، ولا يتوقف عن طلب المال ولو كان من أكثر الناس مالاً؛ ويشمل أيضاً فقر المال وهو قلته..
.13 ومنها: أن بني إسرائيل لا يقومون للمسلمين لو حاربوهم من قبل الإسلام؛ لأن ضرب الذلة بسبب المعصية؛ فإذا حوربوا بالطاعة والإسلام فلا شك أنه سيكون الوبال عليهم؛ وقد قال الله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر} [الحشر: 14] ؛ وما يشاهد اليوم من مقاتلة اليهود للعرب فإنما ذلك لسببين:.
الأول: قلة الإخلاص لله تعالى؛ فإن كثيراً من الذين يقاتلون اليهود . أو أكثرهم . لا يقاتلونهم باسم الإسلام، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ وإنما يقاتلونهم باسم العروبة؛ فهو قتال عصبي قَبَليّ؛ ولذلك لم يفلح العرب في مواجهة اليهود..
والسبب الثاني: كثرة المعاصي من كبيرة، وصغيرة؛ حتى إن بعضها ليؤدي إلى الكفر؛ وقد حصل للمسلمين في أُحُد ما حصل بمعصية واحدة مع ما انضم إليها من التنازع، والفشل، كما قال الله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} (آل عمران: 152)
.14 ومن فوائد الآية: إثبات صفة الغضب لله تعالى؛ وغضب الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته؛ لكنها لا تماثل صفات المخلوقين؛ فنحن عندما نغضب تنتفخ الأوداج منا، ويحمر الوجه، ويقفُّ الشعر، ويفقد الإنسان صوابه؛ وهذه العوارض لا تكون في غضب الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء؛ بل هو غضب يليق بالله عزّ وجلّ دال على كمال عظمته، وسلطانه؛ وإذا قلنا بهذا، وسلَّمنا أن الغضب صفة حقيقية برئت بذلك ذمتنا، وصرنا حسب ما أمر الله به، ورسوله..
وفسر أهل التحريف "غضب الله" بانتقامه، ولا يثبتونه صفة لله عزّ وجلّ؛ وفسره آخرون بأنه إرادة الانتقام؛ فمعنى { غضب الله عليهم } عندهم: أراد أن ينتقم منهم؛ وتفصيل ذلك مذكور في كتب العقائد..
.15 ومن فوائد الآية: أن بني إسرائيل جمعوا بين المعاصي، والعدوان..
.16 ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ حيث ربط الأشياء بأسبابها؛ لقوله تعالى: { ذلك بأنهم }، وقوله تعالى: { ذلك بما عصوا }؛ وهذا من الحكمة أن يكون للأسباب تأثيراً في مسبَّباتها بما جعله الله رابطاً بين الأسباب والمسبَّبات، ولكن الأسباب قد يكون لها موانع؛ فقد توجد الأسباب، ولكن توجد موانع أقوى منها؛ فالنار لم تحرق إبراهيم صلى الله عليه وسلم. مع أنها سبب للإحراق . لوجود مانع؛ وهو قول الله تعالى لها: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69] ..


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:35 AM   #65
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:62)
التفسير:
لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما عاقب به بني إسرائيل من ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب بَيَّن أن المؤمنين من بني إسرائيل، وغيرهم كلهم لهم أجرهم عند الله..
ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال: { وباءوا بغضب من الله } بيَّن أن من آمن منهم، وعمل صالحاً فإن الله لا يضيع أجره؛ فقال تعالى: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم )
.{ 62 } قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين يستحقون الوصف بالإيمان المطلق، حيث آمنوا بجميع الكتب، والرسل..
قوله تعالى: { والذين هادوا } أي الذين انتسبوا إلى دين اليهود . وهي شريعة موسى، { والنصارى } أي الذين انتسبوا إلى دين عيسى..
قوله تعالى: { والصابئين }: اختلف فيهم على عدة أقوال؛ فمن العلماء من يقول: إن الصابئين فرقة من النصارى؛ ومنهم من يقول: إنهم فرقة من اليهود؛ ومنهم من يقول إنهم فرقة من المجوس؛ ومنهم من يقول: إنهم أمة مستقلة تدين بدين خاص بها؛ ومنهم من يقول: إنهم من لا دين لهم: من كانوا على الفطرة؛ ولا يتدينون بدين . وهذا هو الأقرب؛ فإذا أرسل إليهم الرسل فآمنوا بالله واليوم الآخر ثبت لهم انتفاء الخوف، والحزن، كغيرهم من الطوائف الذين ذُكروا معهم..
قوله تعالى: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } هذا بدل ممن قبله عائد إلى الذين هادوا، والنصارى، والصابئين..
قوله تعالى: { فلهم أجرهم } أي ثوابهم؛ وسمى الله تعالى "الثواب" أجراً؛ لأنه سبحانه وتعالى التزم على نفسه أن يجزي به كالتزام المستأجر بدفع الأجرة للأجير؛ { عند ربهم }: أضاف ربوبيته إليهم على سبيل الخصوص تشريفاً، وتكريماً، وإظهاراً للعناية بهم؛ فهذه كفالة من الله عزّ وجلّ، وضمان، والتزام بهذا الأجر؛ فهو أجر غير ضائع..
قوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ "الخوف" هو الهمّ مما يستقبل؛ و "الحزن" : هو الغم على ما فات من محبوب، أو ما حصل من مكروه؛ ولهذا يقال لمن أصيب بمصيبة: "إنه محزون"؛ ويقال لمن يتوقع أمراً مرعباً، أو مروعاً: "إنه خائف"؛ وقد يطلق "الحزن" على الخوف مما يستقبل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار: "لا تحزن إن الله معنا"(121) ، فالمراد . والله أعلم . لا تخف؛ فقوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي من كل مما يخاف في المستقبل: من عذاب القبر، وعذاب النار، وغير ذلك؛ وقوله تعالى: { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى من الدنيا؛ لأنهم انتقلوا إلى خير منها؛ أما الكافر فيحزن على ما فرط في الحياة الدنيا، ويتحسر، كما قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 54 . 56] : هذا تحزُّن، وتحسُّر..

الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، فكل من آمن بالله واليوم الآخر، فإن له أجره من أيّ صنف كان..
.2 ومنها: ثمرة الإيمان بالله، واليوم الآخر . وهو حصول الأجر، وانتفاء الخوف مما يستقبل، والحزن على ما مضى..
.3 ومنها: أنه لا فرق في ذلك بين جنس وآخر؛ فالذين هادوا، والنصارى، والصابئون مثل المؤمنين إذا آمنوا بالله، واليوم الآخر . وإن كان المؤمنون من هذه الأمة يمتازون على غيرهم بأنهم أكثر أجراً..
.4 ومنها: عظم أجر الذين آمنوا، وعملوا الصالحات؛ وذلك في قوله تعالى: { عند ربهم }..
.5 ومنها: أنه إذا ذكر الثناء بالشر على طائفة، وكان منهم أهل خير فإنه ينبغي ذكر أولئك الذين اتصفوا بالخير حتى لا يكون قدحاً عاماً؛ لأنه تعالى بعدما قال: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} [البقرة: 61] بيَّن أن منهم من آمن بالله، واليوم الآخر، وأن من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون..
الـقرآن
)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63) )ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:64)
التفسير:
.{ 63 } ثم ذكَّر سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأمر أخذه عليهم، فقال تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم } يعني اذكروا إذا أخذنا ميثاقكم؛ و "الميثاق" : العهد الثقيل المؤكد؛ وسمي بذلك من الوَثاق . وهو الحبل الذي يُشد به المأسور، كما في قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} (محمد: 4)
قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم } أي فوق رؤوسكم { الطور } هو الجبل المعروف؛ رفعه الله . تبارك وتعالى . على بني إسرائيل لما تهاونوا في طاعة الله سبحانه وتعالى إنذاراً لهم، وقال تعالى لهم: { خذوا ما آتيناكم بقوة } أي: اقبلوا ما أعطيناكم من التوراة . كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب} [البقرة: 121] . واعملوا به بقوة؛ والمراد بالـ "قوة" هنا الحزم، والتنفيذ؛ والتطبيق؛ وضده أن يأخذ الإنسان أخذاً ضعيفاً متساهلاً على كسل؛ والباء في قوله تعالى: { بقوة } للمصاحبة؛ أي خذوا هذا الكتاب . أي التوراة التي جاء بها موسى صلى الله عليه وسلم. أخذاً مصحوباً بقوة، فلا تهملوا شيئاً منه..
قوله تعالى: { واذكروا ما فيه } أي اذكروا كل ما فيه، واعملوا به؛ لأن { ما } اسم موصول يفيد العموم..
قوله تعالى: { لعلكم تتقون }: "لعل" للتعليل؛ أي لأجل أن تتقوا الله عزّ وجلّ؛ فالأخذ بهذا الميثاق الذي آتاهم الله على وجه القوة، وذكر ما فيه وتطبيقه يوجب التقوى؛ لأن الطاعات يجر بعضها بعضاً، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183] ؛ فالطاعات يجر بعضها بعضاً، لأن الطاعة إذا ذاق الإنسان طعمها نشط، وابتغى طاعة أخرى، ويتغذى قلبه؛ وكلما تغذى من هذه الطاعة رغب في طاعة أخرى؛ وبالعكس المعاصي: فإنها توجب وحشة بين العبد وبين الله عزّ وجلّ، ونفوراً، والمعاصي يجر بعضها بعضاً؛ وسبق قوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61] ؛ ثم بعد هذا الإنذار، وكون الجبل فوقهم في ذلك الوقت خضعوا، وخشعوا، قال الله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة} [الأعراف: 171] ؛ ففي تلك الساعة هرعوا إلى السجود؛ وسجدوا؛ ولكنهم مالوا في سجودهم ينظرون إلى الجبل خائفين منه؛ ولهذا يقال: إن سجود اليهود إلى الآن سجود مائل كأنما ينظرون إلى شيء فوقهم؛ وقالوا: إن هذا السجود سجدناه لله سبحانه وتعالى لإزالة الشدة؛ فلا نزال نسجد به؛ فهذا سجودهم إلى اليوم..
.{ 64 } قوله تعالى: { ثم توليتم } أي أعرضتم وأدبرتم عن طاعة الله سبحانه وتعالى { من بعد ذلك }: المشار إليه: رفع الجبل في قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور }؛ والمعنى: بعد هذه الإنابة وقت رفع الطور توليتم، ولم تذكروها؛ ما ذكرتم أن الذي خوفكم بهذا الجبل قد يعيد عليكم ذلك مرة أخرى..
قوله تعالى: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بإرسال الرسل، وبيان السبل، وغير ذلك فـ "الفضل" بمعنى التفضل؛ و "لولا" حرف امتناع لوجود؛ و "فضل" مبتدأ، وخبره محذوف، كما قال ابن مالك:.
(وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم وفي نص يمين ذا استقر) والتقدير: فلولا فضل الله عليكم موجود..
قوله تعالى: { لكنتم من الخاسرين }: اللام واقعة في جواب "لولا" ..
وقوله تعالى: { الخاسرين } أي الذين خسروا الدنيا، والآخرة، فلم يربحوا منهما بشيء؛ لأن أخسر الناس هم الكفار؛ فلا هم استفادوا من دنياهم، ولا من آخرتهم..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: تذكير الله . تبارك وتعالى . لبني إسرائيل بما أخذ عليهم من عهد؛ لقوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور }؛ وهذا التذكير مقتضاه الإلزام . أي فالتزموا بالميثاق..
.2 ومنها: عتوّ بني إسرائيل، حيث لم يؤمنوا إلا حين رفع فوقهم الطور كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم؛ فحينئذٍ آمنوا؛ وهذا الإيمان في الحقيقة يشبه إيمان المكره الذي قيل له: إما أن تؤمن؛ أو تُقْتَل..
.3 ومنها: بيان قوة الله عزّ وجلّ، وقدرته؛ لقوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور }؛ وقد قال الله تعالى في آية أخرى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} [الأعراف: 171] ؛ فلا أحد من الخلق يستطيع أن يحمل ذلك الجبل، ويجعله ظلة لا يسقط عليهم إلا الله عزّ وجلّ؛ فالأحجار العظيمة الثقيلة الكبيرة أمسكها الله تعالى بقدرته..
.4 ومنها: أن الواجب على أهل الملة أن يأخذوا كتابهم بقوة لا بضعف، ولين، ومداهنة؛ بل لابد من قوة في التطبيق، والدعوة؛ التطبيق على أنفسهم؛ ودعوة غيرهم إلى ذلك بدون فتور، ولا تراخٍ على حدّ قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النمل: 125] ؛ لأنه لا يتم الأمر إلا بهذا..
.5 ومنها: أن الأخذ بالكتاب المُنَزَّل يوجب التقوى؛ لقوله تعالى: لعلكم تتقون } أي لأجل أن تكونوا من المتقين لله عزّ وجلّ..
.6 ومنها: لؤم بني إسرائيل؛ لأنهم بعد أن رجع الجبل إلى مكانه تولوا، كما قال تعالى: { ثم توليتم من بعد ذلك }؛ وهذا من اللؤم؛ لأن من الواجب أن يذكروا رفع الجبل فوقهم حتى يستقيموا، ويستمروا على الأخذ بقوة؛ لكنهم تولوا من بعد ما رأوا الآيات..
.7 ومنها: بيان فضل الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ).
.8 ومنها: أن الإنسان لا يستقل بنفسه في التوفيق؛ لقوله تعالى: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ).
.9 ومنها: إثبات فضل الله تعالى على بني إسرائيل بما أعطاهم من الآيات الكونية، والشرعية..
.10 ومنها: إثبات الأسباب، وربطها بمسبباتها؛ لقوله تعالى: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين }؛ فهذا صريح في إثبات الأسباب، وتأثيرها في مسبَّباتها..

القـرآن
)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة:65) )فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:66)
التفسير:
.{ 65 } قوله تعالى: { ولقد }: اللام موطئة للقسم؛ وعلى هذا فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم المقدر، واللام، و "قد" ؛ والتقدير: والله لقد؛ و{ علمتم }: الخطاب لبني إسرائيل؛ أي علمتم عِلم اليقين، وعرفتم معرفة تامة { الذين اعتدوا منكم } أي تجاوزوا الحدود، وطغوا منكم..
قوله تعالى { في السبت } أي في الحكم الذي حكم الله به عليهم يوم السبت؛ وذلك أن الله حرم عليهم العمل والصيد في ذلك اليوم ليتفرغوا للعبادة؛ فابتلاهم بكثرة الحيتان يوم السبت حتى تكون فوق الماء شُرَّعاً، ثم لا يرونها بعد ذلك؛ فتحيلوا على صيدها بحيلة، حيث وضعوا شباكاً يوم الجمعة، فتدخل فيه الحيتان إذا جاءت يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، ويقولون: نحن لم نصدها يوم السبت، فقال لهم الله تعالى: { كونوا قردة خاسئين } أي ذليلين، فصاروا كذلك..
.{ 66 } قوله تعالى: { فجعلناها } أي صيرناها؛ واختلف المفسرون في مرجع الضمير المفعول به؛ فقيل: يعود على القرية؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت} ؛ فيكون مرجع الضمير مفهوماً من السياق؛ وقيل: يعود على العقوبة . أي فجعلنا العقوبة؛ لقوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالًا }؛ فيكون المعنى: فجعلنا هذه العقوبة نكالاً..
قوله تعالى: { نكالًا }: النكال، والتنكيل أن يعاقب الإنسان بعقوبة تمنعه من الرجوع إلى ما عوقب عليه..
قوله تعالى: { لما بين يديها وما خلفها }: اختلف في مرجع الضمير "ها" ؛ فقيل: يرجع إلى القرية؛ فيكون: { لما بين يديها }: ما قرب منها من القرى من أمامها؛ و{ ما خلفها }: ما كان من القرى من خلفها؛ لأن أهل القرى علموا بما نزل بها من العقوبة، فكان ذلك نكالاً لهم؛ وقيل: إن المراد بـ "ما بين يديها" : ما يأتي بعدها: "وما خلفها": ما سبقها؛ ولكن في هذا إشكالاً؛ لأن من سبقها قد مضى، فلا يكون منتفعاً، ولا ناكلاً إلا أن يراد بـما بين يديها" من عاصرها، و "ما خلفها" : من يأتي بعدهم، ويكون "الخَلْف" هنا بمعنى الأمام، كما جاء "الوراء" بمعنى الأمام في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79] ..
قوله تعالى: { وموعظة للمتقين } أي موضع اتعاظ للذين يتقون الله..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: توبيخ اليهود الموجودين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الإيمان به؛ ووجه ذلك أنهم علموا ما حلّ بأسلافهم من النكال بسبب المخالفة؛ فكان عليهم أن يكون ذلك موعظة لهم يرتدعون به عن معصية الله ورسوله..
.2 ومنها: تحريم الحيل، وأن المتحيل على المحارم لا يخرج عن العدوان؛ لقوله تعالى: { الذين اعتدوا منكم في السبت }؛ بل الحيل على فعل محرم أعظم إثماً من إتيان المحرم على وجه صريح؛ لأنه جمع بين المعصية، والخداع؛ ولهذا كان المنافقون أشد جرماً وعداوة للمؤمنين من الكفار الصرحاء؛ قال أيوب السختياني . رحمه الله . في المتحيلين: "إنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان؛ ولو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون"؛ وصدق رحمه الله؛ وللحيل مفاسد كثيرة . راجع إن شئت كتاب "إغاثة اللهفان" لابن القيم . رحمه الله . وغيره..
وأنت إذا تأملت حيل اليهود في السبت، وحيلهم في بيع شحوم الميتة وقد حرمت عليهم، ثم أذابوها، وباعوها، وأكلوا ثمنها؛ وتأملت حيل بعض المسلمين اليوم على الربا وغيره. وجدت أن حيل بعض المسلمين اليوم على ما ذُكر أشد حيلة من حيل اليهود . ومع ذلك أحل الله بهم نقمته، وقد نهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"(122) ؛ فالمتحيل على المحرَّم واقع فيه، ولا تنفعه الحيلة..
.3 ومن فوائد الآيتين: بيان حكمة الله في مناسبة العقوبة للذنب؛ لأن عقوبة هؤلاء المتحيلين أنهم مسخوا قردة خاسئين؛ والذنب الذي فعلوه أنهم فعلوا شيئاً صورته صورة المباح؛ ولكن حقيقته غير مباح؛ فصورة القرد شبيهة بالآدمي، ولكنه ليس بآدمي؛ وهذا؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: {فكلًّا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ..
.4 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { كونوا قردة خاسئين }؛ فكانوا في لحظة قردة..
.5 ومنها: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }..
.6 ومنها: أن الذين مسخوا قردة من هذه القرية هم الذين اعتدوا في السبت؛ وأما الذين نَهَوا عن السوء فقد نجوا؛ وأما الذين سكتوا عن المعتدين، ولم يشاركوهم فقد سكت الله عنهم؛ فنسكت عنهم..
.7 ومنها: أن العقوبات فيها تنكيل لغير العامل؛ لقوله تعالى: { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها }؛ ولهذا يقص الله علينا من نبأ المكذبين للرسل ما يكون لنا فيه عبرة، كما قال عزّ وجلّ: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] ..
.8 ومنها: أن الحدود الشرعية نكال للفاعل أن يعود مرة أخرى إلى هذا الذنب، ولغير الفاعل..
.9 ومنها: أن الذين ينتفعون بمثل هذه المواعظ هم المتقون..
.10 ومنها: أن المواعظ قسمان: كونية، وشرعية؛ فالموعظة هنا كونية قدرية؛ لأن الله أحل بهم العقوبة التي تكون نكالاً لما بين يديها، وما خلفها، وموعظة للمتقين؛ وأما الشرعية فمثل قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} [يونس: 57] ؛ والمواعظ الكونية أشد تأثيراً لأصحاب القلوب القاسية؛ أما المواعظ الشرعية فهي أعظم تأثيراً في قلوب العارفين بالله اللينة قلوبهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات..
.11 ومن فوائد الآيتين: أن الذين ينتفعون بالمواعظ هم المتقون؛ وأما غير المتقي فإنه لا ينتفع لا بالمواعظ الكونية، ولا بالمواعظ الشرعية؛ قد ينتفع بالمواعظ الكونية اضطراراً، وإكراهاً؛ وقد لا ينتفع؛ وقد يقول: هذه الأشياء ظواهر كونية طبيعية عادية، كما قال تعالى: {وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم} [الطور: 44] ؛ وقد ينتفع، ويرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65] ، وقال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختَّار كفور} [لقمان: 32] ..
.12 ومن فوائد الآيتين: أن من فوائد التقوى . وما أكثر فوائدها . أن المتقي يتعظ بآيات الله سبحانه وتعالى الكونية، والشرعية..



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:37 AM   #66
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة:67) )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) (البقرة:68) (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة:69)(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) (البقرة:70)(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة:71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:73
التفسير:
.{ 67 } قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قال موسى لقومه، وإضافة "القوم" إليه لبيان أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يقول لهم إلا ما فيه خير؛ لأن الإنسان سوف ينصح لقومه أكثر مما ينصح لغيرهم..
قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }: قالها في جواب ذكره الله سبحانه وتعالى في أثناء القصة:
{ وإذ قتلتم نفساً فادَّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72] ؛ فقد قُتل منهم نفس فتخاصموا، وتدافعوا: كل يدعي أن هؤلاء قتلوه؛ حتى كادت تثور الفتنة بينهم؛ ولا حاجة بنا إلى أن نعلل لماذا قتل؛ أو لأي غرض؛ هذا ليس من الأمور التي تهمنا؛ لأن القرآن لم يتكلم بها؛ ولكن غاية ما يكون أن نأخذ عن بني إسرائيل ما لا يكون فيه قدح في القرآن، أو تكذيب له، فقالوا: لا حاجة إلى أن نتقاتل، ويُذهب بعضنا بعضاً؛ نذهب إلى نبي الله موسى، ويخبرنا من الذي قتله؛ فذهبوا إليه، فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } صدَّر الأمر من الله؛ لم يقل: آمركم، ولا قال: اذبحوا؛ بل قال: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }؛ ليكون أعظم وقعاً في نفوسهم، وأدعى إلى قبوله، وامتثاله..
وقوله { بقرة }: لم تعين بوصف؛ فلو ذبحوا أيّ بقرة كانت لكانوا ممتثلين؛ ولكنهم تعنتوا، وتشددوا فشدد الله عليهم . كما سيأتي..
قوله تعالى: { أتتخذنا هزواً }؛ { هزواً } مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي أتتخذنا مهزوءاً بنا؛ ويجوز أن تكون (هزواً) على بابها؛ ويكون المعنى: أتتخذنا ذوي هُزْء؛ فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه؛ "والهزء" السخرية؛ وإنما قالوا ذلك لاستبعادهم أن يكون ذبح البقرة سبباً لزوال ما بينهم من المدارأة؛ والتعبير بقولهم: { أتتخذنا هزواً } أبلغ من قول "أتستهزئ بنا"؛ لأن الأولى تفيد أنهم جُعلوا محل استهزاء . بخلاف الثانية فإنما تدل على حصول الاستهزاء . ولو بمرة واحدة..
فأجابهم نبي الله بقوله: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } أي أعتصم بالله أن أكون من أولي الجهل فأتخذ عباد الله هزواً؛ والمراد بـ "الجهل" هنا السفه، كما في قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [النساء: 17] . أي بسفاهة . {ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] ..
.{ 68 . 69 } قوله تعالى: { قالوا ادع لنا ربك }: سبق الكلام على نظيرها؛ { يبين لنا ما هي }: هذا الطلب ليس له وجه؛ لأن اللفظ بين: فالبقرة معلومة، والمطلق ليس مجملاً يحتاج إلى بيان . لوضوح معناه؛ فإذا قيل مثلاً: "أكرم رجلاً"؛ فلا يحتاج أن تقول: "ما صفة هذا الرجل"؛ إذا أكرمت أيّ رجل حصل المقصود؛ فلو أنهم ذهبوا، وذبحوا أيّ بقرة، وامتثلوا ما أمرو به لانتهى الأمر؛ ولكنهم تعنتوا..
قوله تعالى: { قال } أي موسى { إنه يقول } أي الله عزّ وجلّ { إنها بقرة لا فارض ولا بكر }: "البكر" معروف: التي لم تلد، ولا قرعها الفحل، و "الفارض" تُعرف بمقابلها، فإذا كانت "البكر" هي التي لم يقرعها الفحل، فإن "الفارض" هي المسنة الكبيرة؛ وهذا . أي تفسير الكلمة، أو معرفة معنى الكلمة بمعرفة ما يقابلها . له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً} [النساء: 71] ؛ فكلمة: {ثبات} هنا يتبين معناها بما ذكر مقابلاً لها . وهو قوله تعالى: {أو انفروا جميعاً} ؛ فيكون معناها: متفرقين أفراداً..
قوله تعالى: { عوان بين ذلك } أي وسط بين ذلك . أي بين كونها فارضاً وبكراً؛ وفيه إشكال على هذا: لأنه إذا كان المشار إليه اثنين وجب تثنية اسم الإشارة؛ واسم الإشارة هنا مفرد مذكر؟ والجواب عنه أن يقال: { بين ذلك } أي بين ذلك المذكور من الفارض والبكر . أي لا تكون هكذا، ولا هكذا، ولكن عوان بين ذلك المذكور..
قوله: { فافعلوا ما تؤمرون }؛ هذا الأمر من موسى؛ وليس من كلام الله عزّ وجلّ؛ فموسى يقول لبني إسرائيل: افعلوا ما تؤمرون به من ذبح بقرة لا فارض، ولا بكر، ولا تتعنتوا فيشدد عليكم مرة ثانية؛ ولو أنهم امتثلوا، وذبحوا بقرة عواناً بين ذلك لحصل المقصود؛ وكان عليهم أن يفعلوا . وإن لم يأمرهم نبيهم به؛ ولكنهم أهل عناد، وتعنت؛ ولهذا أمرهم أمراً ثانياً؛ ومع ذلك قالوا: { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }: كل هذا من باب التعنت، والتشدد؛ و{ ما لونها } يعني أيّ شيء لونها . بيضاء؛ سوداء؛ شهباء..؟
قوله تعالى: { قال } أي موسى { إنه يقول } أي الله سبحانه وتعالى { إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين }: شدد عليهم مرة أخرى في اللون: أولاً حيث قال تعالى: { إنها بقرة صفراء }، فخرج بهذا ما عدا الصفرة من الألوان . وهذا نوع تضييق؛ ثانياً بكونها: { فاقع لونها }؛ و "الفاقع" يعني الصافي؛ والمعنى: أنه ليس فيه ما يشوبه، ويخرجه عن الصفرة؛ وقيل: معنى { فاقع لونها } أي شديد الصفرة، وهو كلما كان صافياً كان أبين في كونه أصفر؛ ثالثاً بكونها: { تسر الناظرين } يعني ليست صفرتها صفرة توجب الغم؛ أو صفرتها مستكرهة؛ بل هي صفرة تجلب السرور لمن نظر إليها؛ فصار التضييق من ثلاثة أوجه: صفراء؛ والثاني: فاقع لونها؛ والثالث: تسر الناظرين..
.{ 70 } قوله تعالى: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي }: هذا أيضاً طلب ثالث؛ يقولون: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي من حيث العمل؛ { إن البقر تشابه علينا } أي اشتبه علينا البقرة المطلوبة؛ وفي الحقيقة أنه ليس في هذا اشتباه؛ إذ ذُكر لهم أنها بقرة، وذكر لهم سنها؛ وذكر لهم لونها؛ فأين التشابه؟! لكن هذا من عنادهم، وتعنتهم، وتباطئهم في تنفيذ أمر الله..
قولهم: { وإنا إن شاء الله لمهتدون }: أكدوا الهداية هنا بمؤكدين؛ وهما: "إن" ، واللام؛ ومؤكد ثالث؛ وهو الجملة الاسمية؛ وهي أبلغ من الجملة الفعلية، وأخذوا على أنفسهم أنهم سيهتدون؛ ولكنهم علقوا ذلك بمشيئة الله، قال بعض السلف: "لو لم يقولوا: { إن شاء الله } لم يهتدوا إليها أبداً" . وهذا فيما إذا كان قصدهم تفويض الأمر إلى الله عزّ وجلّ؛ ويحتمل أن يكون قصدهم أنهم لو لم يهتدوا لاحتجوا بالمشيئة، وقالوا: "إن الله لم يشأ أن نهتدي"! وما هذا الاحتمال ببعيد عليهم..
.{ 71 } فأجابهم على هذا: { قال }: أي موسى { إنه يقول } أي الله عزّ وجلّ { إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلَّمة لا شية فيها }: هذا أيضاً تشديد زيادة على ما سبق؛ و{ ذلول } على وزن فَعول؛ وهي المتذللة التي ذللت لصاحبها؛ و "والمذللة" هي التي تثير الأرض للزرع؛ و{ لا تسقي الحرث } أي لا يُسنَى عليها؛ فهي ليست سانية، ولا حارثة؛ و{ مسلمة } أي من العيوب؛ { لا شية فيها } أي ليس فيها لون يخالف لونها؛ مأخوذ من وشي الثوب . وهو تلوينه بألوان مختلفة، مثل عِدَة مأخوذة من الوعد؛ إذاً هي صفراء ليس فيها سواد، ولا فيها بياض، ولا فيها أي لون آخر؛ وهذا كله من زيادة التشديد عليهم..
وبهذا التقرير نعرف أنه لا حاجة بنا إلى ما ذكره كثير من المفسرين من الإسرائيليات من أن هذه البقرة كانت عند رجل بارّ بأمه، وأنهم اشتروها منه بملء مَسكها ذهباً . يعني بملء جلدها ذهباً؛ وهذا من الإسرائيليات التي لا تصدق، ولا تكذب، ولكن ظاهر القرآن هنا يدل على كذبها؛ إذ لو كان واقعاً لكان نقله من الأهمية بمكان لما فيه من الحث على برّ الوالدين حتى نعتبر؛ فالصواب أن نقول في تفسير الآية ما قال الله عزّ وجلّ، ولا نتعرض للأمور التي ذكرها المفسرون هنا من الحكايات..
قوله تعالى: { قالوا الآن جئت بالحق }؛ { الآن } اسم زمان يُشار به للوقت الحاضر؛ فمقتضى كلامهم أنه أولاً أتى بالباطل، وقد صدّروا هذه القصة بقولهم { أتتخذنا هزواً }؛ يعني الآن عرفنا أنك لست تستهزئ؛ وإنما أنت صادق؛ هذا هو المتبادر من الآية الكريمة، وليس بغريب على تعنتهم أن يقولوا مثل هذا القول؛ وقال بعض المفسرين اتقاءً لهذا المعنى البشع: إن المراد بقولهم: { بالحق } أي بالبيان التام . أي الآن بينت لنا أوصافها، فجعلوا "الحق" هنا بمعنى البيان؛ ولكن الصواب أن "الحق" هنا ضد الهزء، والباطل؛ يدل على ذلك أنهم صدروا هذه القصة بقولهم: { أتتخذنا هزواً }؛ فبعد هذه المناقشات مع موسى، والسؤالات، وطلب الله عزّ وجلّ قالوا: الآن جئت بالحق، وعرفنا أنك لست مستهزئاً بنا؛ بل إنك جادّ فيما تقول..
قوله تعالى: { فذبحوها } أي بعد العثور عليها بأوصافها السابقة؛ { وما كادوا يفعلون } أي ما قاربوا أن يفعلوا؛ وذلك بإيرادهم الطلب عن سنها، ولونها، وعملها، وهذا تباطؤ يبعدهم من الفعل؛ لكنهم فعلوا؛ لقوله تعالى: ( فذبحوها )
.{ 72 . 73 } قوله تعالى: { وإذ قتلتم نفساً } أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفساً؛ ووجه الخطاب لمن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الفعل كان ممن سبقهم؛ لأن الأمة الواحدة بمنزلة الجسد الواحد؛ وفعل أولها كفعل آخرها فيما يلحقهم من ذمّ..
قوله تعالى: { فادَّارأتم فيها } أي تدافعتم؛ كل منكم يدافع عن نفسه التهمة، ويتهم الآخر، وكان قد قُتل منهم قتيل من إحدى القبيلتين؛ فادّعت كل واحدة أن الأخرى هي قاتلته؛ وكاد يكون بينهم فتنة؛ فأتوا إلى موسى، فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة... } إلخ..
قوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون } أي مظهر ما كنتم تخفونه من تعيين القاتل؛ وذلك بالآية العظيمة التي بينها في قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ ولكن عن طريق الوحي إلى نبيه موسى . عليه الصلاة والسلام؛ وأضاف قول موسى إليه تبارك وتعالى؛ لأنه هو الآمر به، كما في قوله سبحانه وتعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 . 18] : فالمراد بقوله تعالى: {قرأناه} قرأه جبريل . عليه الصلاة والسلام .؛ فهنا قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها } يعني أن الله تعالى أمر نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، فقال لهم بأمر الله: { اضربوه ببعضها } أي اضربوا هذا القتيل ببعض هذه البقرة؛ ولم يعين الله تعالى البعض: أهو الساق؛ أو الفخذ؛ أو الرقبة؛ أو الرأس، أو أيّ جزء من أجزائها، فليس لنا أن نعينه بجزء منها..
قوله تعالى: { كذلك يحيي الله الموتى } أي مثل إحياء هذا القتيل يحيي الله عزّ وجلّ الموتى بكلمة واحدة، كما قال تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} (يس: 53)
قوله تعالى: { ويريكم آياته } أي يظهرها لكم حتى تروها؛ والمراد بـ "الآيات" هنا الآيات الكونية؛ لأنها إحياء ميت بضربه بجزء من أجزاء هذه البقرة؛ ويحتمل أن يكون المراد آياته الشرعية أيضاً؛ لأن موسى . عليه الصلاة والسلام . أمرهم بذلك؛ فضربوا الميت ببعض هذه البقرة؛ فصار ذلك مصداقاً لقول موسى . عليه الصلاة والسلام ...
قوله تعالى: { لعلكم تعقلون }؛ "لعل" للتعليل؛ أي لأجل أن تعقلوا عن الله . تبارك وتعالى . آياته، وتفهموها؛ والعقل هو ما يحجز الإنسان عن فعل ما لا ينبغي؛ وهو خلاف الذكاء؛ فالذكاء هو سرعة البديهة، والفهم؛ وقد يكون الإنسان ذكياً، ولكنه ليس بعاقل..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيات: تعظيم الله عزّ وجلّ، حيث أسند الأمر إليه بصيغة الغائب، كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] ..
.2 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يسلك الأسباب التي تؤدي إلى قبول الأمر، أو الخبر؛ لقوله: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }..
.3 ومنها: استهتار بني إسرائيل، حيث قالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام: { أتتخذنا هزواً } وقد أخبرهم أن الله تعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة؛ فلم يحملوا هذا محمل الجدّ مع أن الواجب أن يحملوا هذا محمل الجدّ؛ لأنه أمر من الله عزّ وجلّ..
.4 ومنها: أن الاستهزاء بالناس من الجهل وهو الحمق، والسفه؛ لقول موسى عليه الصلاة والسلام: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )
.5 ومنها: أن جميع الخلق محتاجون إلى الله تعالى، وإلى الاعتصام به عزّ وجلّ؛ فإن موسى صلى الله عليه وسلم كان من أولي العزم من الرسل؛ ومع ذلك فهو محتاج إلى ربه تبارك وتعالى؛ لقوله تعالى: { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }؛ والاستعاذة لا تكون إلا بالله عزّ وجلّ؛ وقد تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن وجد معاذاً فليعذ به"(123) ..
.6 ومنها: استكبار بني إسرائيل، حيث قالوا لموسى . عليه الصلاة والسلام: { ادع لنا ربك }؛ فأمروه أمراً، ثم أضافوا ربوبية الله عزّ وجلّ إلى موسى، كأنهم متبرئون من ذلك؛ فلم يقولوا: "ادع ربنا"، أو "ادع الله"؛ ومما يدل على استكبارهم كونهم طلبوا من موسى . عليه الصلاة والسلام . أن يبين لهم ما هذه البقرة مع أن البقرة معروفة؛ وهي عند الإطلاق تشمل أيّ واحدة..
.7 ومنها: تأكيد الأمر على بني إسرائيل أن يفعلوه؛ لقوله: { فافعلوا ما تؤمرون }؛ ومع ذلك لم يمتثلوا؛ بل تعنتوا، وطلبوا شيئاً آخر: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }؛ فسألوه عن اللون مع أن أيّ لون يمكن أن يكون في البقرة لا يمنع من إجزائها..
.8 ومنها: بيان ما يدل أيضاً على تعنتهم؛ وذلك أنهم طلبوا بيان هل البقرة عاملة، أو غير عاملة..
.9 ومنها: أن استعمال البقر في الحرث والسقي كان قديماً معروفاً بين الأمم، ولا يزال إلى وقتنا هذا قبل أن تظهر الآلات الحديدية..
.10 ومنها: تشديد الله عليهم، حيث أمرهم بذبح بقرة موصوفة بهذه الصفات التي يعز وجودها في بقرة واحدة؛ وذلك بأن تكون متوسطة في السن لا فارضاً ولا بكراً؛ وأن تكون صفراء فاقعاً لونها تسر الناظرين؛ وألا تكون ذلولاً تثير الأرض وتسقي الحرث؛ وأن تكون مسلَّمة ليس فيها شيء من العيوب..
وألا يخالط لونها لون آخر؛ لقوله: ( لا شية فيها ).
.11ومنها: أن من شدد على نفسه شدد الله عليه . كما حصل لهؤلاء؛ فإنهم لو امتثلوا أول ما أُمِروا، فذبحوا أيّ بقرة لكفاهم؛ ولكنهم شددوا، وتعنتوا، فشدد الله عليهم؛ على أنه يمكن أن يكون تعنتهم هذا للتباطؤ في تنفيذ الأمر..
.12 ومنها: أن بني إسرائيل أرادوا أن يتقهقروا عن تنفيذ أمر الله عزّ وجلّ على درجات؛ الدرجة الأولى: ما سبق من قولهم: { أتتخذنا هزواً }؛ الدرجة الثانية: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي }، الدرجة الثالثة: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }؛ الدرجة الرابعة: قولهم: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } مرة أخرى
.13 . ومنها: استهتار بني إسرائيل، حيث قالوا: { الآن جئت بالحق }؛ فكأنهم يقولون: الآن رضينا بوصف هذه البقرة، ثم قاموا بذبحها على مضـض؛ وكل هذا يدل على استهتارهم بأوامر الله عزّ وجلّ..
.14 ومنها: أن الإنسان إذا لم يقبل هدى الله عزّ وجلّ من أول مرة فإنه يوشك أن يشدد الله عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الدين يسر؛ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه(124)" ..
.15 ومنها: تذكير بني إسرائيل بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم ببيان الأمر الواقع حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم..
.16 ومنها: تأخير ذكر السبب بعد القصة، والمبادرة بذكر النعمة قبل بيان سببها..
.17 ومنها: أن قول الرسول قول لمرسله إذا كان بأمره؛ لقوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها }..
.18 منها: أن البعض الذي ضرب به هذا القتيل من البقرة غير معلوم؛ لقوله تعالى: { ببعضها }؛ فقد أبهمه الله؛ ومحاولة بعض المفسرين أن يعينوه محاولة ليس لها داع؛ لأن المقصود الآية..
.19 ومنها: أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعنى القصة، وغرضها دون من وقعت عليه؛ لقوله تعالى:
{ ببعضها }؛ ولم يعين لهم ذلك توسعة عليهم؛ ليحصل المقصود بأيّ جزء منها؛ ولهذا نرى أنه من التكلف ما يفعله بعض الناس إذا سمع حديثاً أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله..." كذا وكذا؛ تجد بعض الناس يتعب، ويتكلف في تعيين هذا الرجل؛ وهذا ليس بلازم؛ المهم معنى القصة، وموضوعها؛ أما أن تعرف من هذا الرجل؟ من هذا الأعرابي؟ ما هذه الناقة مثلاً؟ ما هذا البعير؟ فليس بلازم؛ إذ إن المقصود في الأمور معانيها، وأغراضها، وما توصل إليه؛ فلا يضر الإبهام . اللهم إلا أن يتوقف فهم المعنى على التعيين..
.20ومن فوائد الآية: أن المبهم في أمور متعددة أيسر على المكلف من المعين؛ وذلك إذا كانوا قد أمروا أن يضربوه ببعضها فقط؛ فإذا قيل لك: "افعل بعض هذه الأشياء" يكون أسهل مما إذا قيل لك: "افعل هذا الشيء بعينه"؛ فيكون في هذا توسعة على العباد إذا خيروا في أمور متعددة . والله أعلم..
.21 ومنها: أن هذه الآية من آيات الله عزّ وجلّ . وهي أن تكون البقرة سبباً لحياة هذا القتيل؛ إذ لا رابطة في المعقول بين أن تُذبح البقرة، ويضرب القتيل ببعضها، فيحيى..
.22 ومنها: أن بيان الأمور الخفية التي يحصل فيها الاختلاف، والنِّزاع، من نعمة الله عزّ وجلّ؛ يعني مثلاً إذا اختلفنا في أمور، وكاد الأمر يتفاقم، ويصل إلى الفتنة، ثم أظهر الله ما يبينه فإن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه يزيل بذلك هذا الخلاف، وهذا النِّزاع..
.23 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يخرج ما كان يكتمه أهل الباطل، ويبينه للناس؛ لقوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون }؛ واذكروا قول الله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً} (النساء: 108)
.24ومنها: التحذير من أن يكتم الإنسان شيئاً لا يرضاه الله عزّ وجلّ؛ فإنه مهما يكتم الإنسان شيئاً مما لا يُرضي الله عزّ وجلّ فإن الله سوف يطلع خلقه عليه . إلا أن يعفو الله عنه ...


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:39 AM   #67
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:74)
التفسير:
.{ 74 } قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم } أي صلبت، وتحجرت؛ { من بعد ذلك } أي من بعد أن منَّ الله عليكم بما حصل من المدارأة في القتيل حتى تبين..
قوله تعالى: { فهي } أي قلوبكم { كالحجارة } أي مثلها؛ { أو أشد قسوة } أي من الحجارة؛ لأن الحجارة أقسى شيء . حتى إنّها أقسى من الحديد؛ إذ إن الحديد يلين عند النار، والحجارة تتفتت، ولا تلين؛ و{ أو } هنا ليست للشك؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بحالها؛ لكن اختلف العلماء . رحمهم الله . هل هي بمعنى "بل"، فتكون للإضراب؛ أو إنها لتحقيق ما سبق . أي أنها إن لم تكن أشد من الحجارة فهي مثلها؟ في هذا قولان لأهل العلم . رحمهم الله؛ وهي كقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] : فمن العلماء من قال: إن {أو} بمعنى "بل" . أي بل يزيدون على مائة ألف؛ ومنهم من قال: إنها لتحقيق ما سبق . أي إن لم يزيدوا على مائة ألف فإنهم لن ينقصوا؛ والله أعلم بما أراد في كتابه..
ثم بين الله عزّ وجلّ أن الحجارة فيها خير بخلاف قلوب هؤلاء فإنه لا خير فيها؛ فقال تبارك وتعالى: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } يعني إن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار . أي أنهار الماء التي يشرب الناس منها، ويسقون بها زروعهم، ومواشيهم..
وقوله تعالى: { لما يتفجر }: { ما } اسم موصول في محل نصب اسم { إن }؛ واللام للتوكيد؛ أي: لَلذِي يتفجر منه الأنهار..
قوله تعالى: { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء }: وهي دون الأول؛ الأول يتفجر منها الأنهار؛ أما هذه فإنها تتشقق، ويخرج منها الماء كالذي يحصل في أحجار الآبار، وما أشبهها..
قوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }، كما قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [الحشر: 21] ، ولما قال موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] ، قال الله سبحانه وتعالى له: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعقاً} [الأعراف: 143] ..
وقوله تعالى: { من خشية الله }، { من } هنا سببية؛ و{ خشية الله } أي خوفهم مع العلم بعظمته..
قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }: فنفى سبحانه وتعالى أن يكون غافلاً عما يعملون؛ وذلك لكمال علمه، وإحاطته تبارك وتعالى..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: لؤم بني إسرائيل الذين جاءتهم هذه النعم ومع ذلك فهم لم يلينوا للحق؛ بل قست قلوبهم على ظهور هذه النعم..
.2 ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس في قوله تعالى: { فهي كالحجارة }؛ لأن الحجارة أمر محسوس؛ والقلب قسوته أمر معقول؛ إذ إنه ليس المعنى أن القلب الذي هو المضغة يقسو؛ القلب هو هو؛ لكن المراد: أنه يقسو قسوة معنوية بإعراضه عن الحق، واستكباره عليه؛ فهو أمر معنوي شبه بالأمر الحسي؛ وهذا من بلاغة القرآن تشبيه المعقول بالمحسوس حتى يتبين..
.3 ومنها: أن الحجارة أقسى شيء يضرب به المثل..
.4 ومنها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل هذه الحجارة الصماء تتفجر منها الأنهار؛ وقد كان موسى . عليه الصلاة والسلام . يضرب بعصاه الحجر، فينبجس، ويتفجر عيوناً بقدرة الله . تبارك وتعالى
.5 ومنها: أن الحجارة خير من قلوب هؤلاء بأن فيها خيراً؛ فإن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار؛ ومنها ما يشقق، فيخرج منه الماء؛ ومنها ما يهبط من خشية الله؛ وهذه كلها خير، وليس في قلوب هؤلاء خير..
.6 ومنها: أن الجمادات تعرف الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }؛ وهذا أمر معلوم من آيات أخرى، كقوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [الجمعة: 1] ، وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ، وقوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] : ففهمتا الأمر، وانقادتا..
.7 ومن فوائد الآية: عظمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { من خشية الله }؛ والخشية هي الخوف المقرون بالعلم؛ لقوله تعالى: { إنما يخشى اللّه َ من عباده العلماء } [فاطر: 28]؛ فمن علم عظمة الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يخشاه..
.8 ومنها: سعة علم الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ وهذه الصفة من صفات الله سبحانه وتعالى السلبية؛ والصفات السلبية هي التي ينفيها الله سبحانه وتعالى عن نفسه. وتتضمن أمرين هما: نفي هذه الصفة؛ وإثبات كمال ضدها..


القـرآن
)أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة:75)
التفسير:
.{ 75 } قوله تعالى: { أفتطعمون أن يؤمنوا لكم }؛ الهمزة للاستفهام؛ والمراد به الاستبعاد، والتيئيس . أي تيئيس المسلمين من أن يؤمن هؤلاء اليهود لهم؛ والفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة مناسب للمقام؛ و "الطمع" معناه الرجاء المقرون بالرغبة الأكيدة؛ يعني: أنتم ترجون مع رغبة؛ لأن الذي يرجو الشيء مع الرغبة الأكيدة فيه يقال: طمع فيه؛ و "الإيمان" هنا بمعنى التصديق؛ أي أن يُصَدِّقوا لكم؛ ويحتمل أن يكون بمعنى الانقياد، والاستسلام لكم؛ وهذا أمر بعيد؛ لقوله تعالى: { وقد كان فريق منهم... }: الواو هنا للحال؛ و{ قد } للتحقيق؛ فالجملة في محل نصب حالاً من الواو في { يؤمنوا لكم } يعني: والحال أن فريقاً منهم يسمعون كلام الله؛ و "الفريق" بمعنى الطائفة؛ و{ منهم } أي من بني إسرائيل..
قوله تعالى: { يسمعون كلام الله ثم يحرِّفونه }: ذكر المفسرون فيه قولين:.
القول الأول: أن المراد بذلك التوراة . يسمعونها ثم يحرفونها . أي يغيرونها؛ ومنه قولهم: حَرَفْت الدابة . يعني غيرت اتجاهها؛ { من بعد ما عقلوه } أي من بعد ما فهموها، وعرفوا معناها، ولم تشكل عليهم؛ ومن ذلك تحريفهم إياها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، وقولهم: إنه الرسول المنتظر . وليس هذا الرسول..
والقول الثاني: أن المراد بذلك الذين أسمعهم الله كلامه سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام؛ وهم الذين اختارهم موسى . وهم سبعون رجلاً فأسمعهم الله تعالى كلامه لموسى، ولكنهم قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }، ثم حرفوا ما سمعوه من كلام الله سبحانه وتعالى لموسى..
وقد بحثت في كتب التفسير التي لدي فلم أجد احتمالاً ثالثاً . وهو أن المراد بـ{ كلام الله } القرآن، وأنهم يسمعونه، ثم يحرفونه؛ لأن القرآن كلام الله؛ وقد قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] أي حتى يسمع القرآن؛ فإن كان هذا الاحتمال صحيحاً فهو أقرب من القولين السابقين . والله أعلم بمراده..
قوله تعالى: { وهم يعلمون } أي يعلمون أنهم يحرفون الكلم أي كلام الله عزّ وجلّ، ويعلمون أن التحريف محرم؛ فتعدوا الحدود، وحرفوا كلام الله عزّ وجلّ، وارتكبوا الإثم عن بصيرة..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن من كان لا يؤمن بما هو أظهر فإنه يبعد أن يؤمن بما هو أخفى؛ لأن من يسمع كلام الله، ثم يحرفه، أبْعَدُ قبولاً للحق ممن لم يسمعه..
.2 ومنها: أن الله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بما يذهب عنه الأسى، والحزن؛ حيث بين له حال هؤلاء، وأنهم قوم عتاة لا مطمع في إيمانهم..
.3 ومنها: إثبات أن الله يتكلم، وأن كلامه بصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { يسمعون كلام الله }؛ وكلام الله . تبارك وتعالى . صفة حقيقية تتضمن اللفظ، والمعنى؛ فهو سبحانه وتعالى يتكلم بحروف، وأصوات مسموعة؛ وتفصيل ذلك والرد على من خالفه مذكور في كتب العقائد..
.4ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى من صفاته الفعلية باعتبار آحاده؛ وأما باعتبار أصل الصفة فهو صفة ذاتية؛ والفرق بين الصفات الذاتية، والفعلية أن الصفات الذاتية لازمة لذات الله أزلاً، وأبداً . ومعنى "أزلاً" أي فيما مضى؛ و"أبداً" أي فيما يستقبل . مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزة، والسمع، والبصر إلى غير ذلك، و الصفات الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فتحْدُث إذا شاء، كالاستواء على العرش، والنُّزول إلى سماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة للفصل بين العباد، والفرح، والرضا، والغضب.. عند وجود أسبابها..
.5 ومن فوائد الآية: الرد على الأشعرية، وغيرهم ممن يرون أن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه؛ وأن الحروف، والأصوات عبارة عن كلام الله، وليست كلام الله؛ بل خلقها الله ليعبر بها عما في نفسه؛ و الرد عليهم مفصلاً في كتب العقائد..
.6 ومنها: أن هؤلاء اليهود قد حرفوا كلام الله، لقوله تعالى: ( ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه )..
.7 ومنها: بيان قبح تحريف هؤلاء اليهود، لأنهم حرفوا ما عقلوه؛ والتحريف بعد عقل المعنى أعظم؛ لأن الإنسان الجاهل قد يعذر بجهله؛ لكن الإنسان العالم الذي عقل الشيء يكون عمله أقبح؛ لأنه تجرأ على المعصية مع علمه بها . فيكون أعظم..
.8 ومنها: قبح تحريف كلام الله، وأن ذلك من صفات اليهود؛ ومن هذه الأمة من ارتكبه، لكن القرآن محفوظ؛ فلا يمكن وقوع التحريف اللفظي فيه؛ لأنه يعلمه كل أحد؛ وأما التحريف المعنوي فواقع، لكن يقيض الله عزّ وجلّ من الأئمة، وأتباعهم من يبينه، ويكشف عوار فاعله..



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:40 AM   #68
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:76))أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (البقرة:77)
التفسير:
. 76 } قوله تعالى: { وإذا لقوا } الضمير يعود على اليهود؛ أي إذا قابلوا، واجتمعوا بـ{ الذين آمنوا } أي بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قالوا } أي بألسنتهم { آمنا } أي دخلنا في الإيمان كإيمانكم، وآمنا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا إذا لقوا المؤمنين؛ و{ إذا خلا بعضهم إلى بعض } أي إذا أوى بعضهم إلى بعض، وانفرد به قال بعضهم لبعض: { أتحدثونهم }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجب؛ والضمير الهاء يعود على المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم يعني يقول اليهود بعضهم لبعض إذا اجتمعوا: كيف تحدثون المؤمنين بالله ورسوله { بما فتح الله عليكم } أي من العلم بصحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
{ ليحاجوكم به عند ربكم }: اللام للعاقبة . أي أن ما حدثتموهم به ستكون عاقبته أن يحاجوكم به عند ربكم..
قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الهمزة للاستفهام؛ والمراد به التوبيخ؛ يعني: أين عقولكم؟! أنتم إذا حدثتموهم بهذا، وقلتم: إن هذا الذي بُعث حق، وأنه نبي يحاجونكم به عند الله يوم القيامة..
قوله تعالى: { أفلا تعقلون }؛ الفاء واقعة بعد همزة الاستفهام؛ وهذا يكثر في القرآن: { أفلا تعقلون }؛ { أفلا تذكرون }؛ { أفلم يسيروا }؛ { أو لم يسيروا }؛ { أثم إذا ما وقع آمنتم به }؛ وأشباه ذلك؛ يعني أنه يأتي حرف العطف بعد همزة الاستفهام؛ وهمزة الاستفهام لها الصدارة في جملتها؛ ولا صدارة مع وجود العاطف؛ لأن الفاء عاطفة؛ فقال بعض النحويين: إن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عُطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف، وهذه الجملة تقدر بما يناسب المقام؛ وقال آخرون: بل إن الهمزة مقدمة؛ وإن حرف العطف هو الذي تأخر . يعني زُحلق حرف العطف عن مكانه، وجعلت الهمزة مكانه؛ وعلى هذا فيكون التقدير: فألا تعقلون؛ أما على الأول فيكون التقدير: أجهلتم فلا تعقلون؛ أو: أسفهتم فلا تعقلون... المهم يقدر شيء مناسب حسب السياق؛ فالقول الأول أدق؛ والثانية أسهل؛ لأن الثاني لا يحتاج عناءً وتكلفاً فيما تقدره بين الهمزة والعاطف..
قوله تعالى: { أو لا يعلمون }: الاستفهام هنا للتوبيخ، والإنكار عليهم لكونهم نزَّلوا أنفسهم منْزلة الجاهل؛ { أن الله يعلم ما يسرون }: يشمل ما يسره الإنسان في نفسه، وما يسره لقومه وأصحابه الخاصين به؛ { وما يعلنون } أي ما يظهرون لعامة الناس؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم هذا، وهذا؛ ولا يخفى عليه شيء؛ والمعنى: كيف يؤنب بعضهم بعضاً بهذا الأمر وهم لو جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وأنكروا نبوَّته، ولم يؤمنوا فإن الله تعالى لا يخفى عليه الأمر؟! فسواء أقروا، أو لم يقروا عند الصحابة أن الرسول حق فإن الله تعالى عالم بهم..

الفوائد:
.1 ومن فوائد الآية: أن في اليهود منافقين؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا... } إلخ..
.2 ومنها: أن من سجايا اليهود وطبائعهم الغدر؛ لقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض... } إلخ؛ لأن هذا نوع من الغدر بالمؤمنين..
.3 منها: أن بعضهم يلوم بعضاً على بيان الحقيقة حينما يرجعون إليهم؛ لقوله تعالى: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم )..
.4 ومنها: أن العلم من الفتح؛ لقولهم: { بما فتح الله عليكم }؛ ولا شك أن العلم فتح يفتح الله به على المرء من أنواع العلوم والمعارف ما ينير به قلبه..
.5 ومنها: أن المؤمن، والكافر يتحاجَّان عند الله يوم القيامة؛ لقولهم: { ليحاجُّوكم به عند ربكم }؛ ويؤيده قوله تعالى: ( ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [المؤمنون: 15) ..
.6 ومنها: سفه اليهود الذين يتخذون من صنيعهم سلاحاً عليهم؛ لقولهم: ( أفلا تعقلون ).
.7 ومنها: الثناء على العقل، والحكمة؛ لأن قولهم: { أفلا تعقلون } توبيخ لهم على هذا الفعل؛ وأنه ينبغي للإنسان أن يكون عاقلاً؛ ما يخطو خطوة إلا وقد عرف أين يضع قدمه؛ ولا يتكلم إلا وينظر ما النتيجة من الكلام؛ ولا يفعل إلا وينظر ما النتيجة من الفعل: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً، أو ليصمت"(125) ..
.8 ومنها: أن كفر اليهود بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن علم؛ ولهذا صاروا مغضوباً عليهم..
.9 ومنها: توبيخ اليهود على التحريف؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون
.10 ومنها: إثبات عموم علم الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( يعلم ما يسرون وما يعلنون )
.11 ومنها: الوعيد على مخالفة أمر الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم.... } الآية؛ لأن المقصود بذلك تهديد هؤلاء، وتحذيرهم..
القـرآن
)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (البقرة:78)
التفسير:
.{ 78 } قوله تعالى: { ومنهم } أي من اليهود؛ { أميون } أي بمنْزلة الأميين؛ والأُمّي من لا يعرف أن يقرأ، ولا أن يكتب؛ { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } أي إلا قراءة بدون فهم للمعنى؛ ومن لم يفهم المعنى فهو في حكم من لا يعرف القراءة؛ لأنه لا يستفيد شيئاً بقراءته؛ { وإن هم إلا يظنون } أي ما هم إلا يظنون؛ لأن الإنسان الذي لا يعرف إلا اللفظ ليس عنده علم..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الأُمّية يوصف بها من لا يقرأ، ومن يقرأ ولا يفهم؛ لقوله تعالى: { ومنم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني }..
.2 ومنها: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كتاب الله عزّ وجلّ..
.3 ومنها: أن من لا يفهم المعنى فإنه لا يتكلم إلا بالظن؛ لقوله تعالى: { وإن هم إلا يظنون }؛ العامي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لكن لا يفهم معناه؛ فإذا تكلم في حكم من أحكام الله الشرعية التي دل عليها الكتاب فإنما كلامه عن ظن؛ لأنه في الحقيقة لا يعلم؛ ولا يمكن أن يعلم إلا إذا فهم المعنى..
.4 ومنها: ذم الحكم بالظن، وأنه من صفات اليهود؛ وهذا موجود كثيراً عند بعض الناس الذين يحبون أن يقال عنهم: "إنهم علماء"؛ تجده يفتي بدون علم، وربما أفتى بما يخالف القرآن، والسنة وهو لا يعلم..
.5 ومنها: أن المقلد ليس بعالم؛ لأنه لا يفهم المعنى؛ وقد قال ابن عبد البر: "إن العلماء أجمعوا أن المقلد لا يعد في العلماء"؛ وهو صحيح: المقلد ليس بعالم؛ غاية ما هنالك أنه نسخة من كتاب؛ بل الكتاب أضبط منه؛ لأنه قد ينسى؛ وليس معنى ذلك أننا نذم التقليد مطلقاً؛ التقليد في موضعه هو الواجب؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النمل: 43 ..

القـرآن
)فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة:79)
التفسير:
.{ 79 } قوله تعالى: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم... }؛ "ويل" كلمة وعيد؛ يتوعد الله تعالى من اتصفوا بهذه الصفة؛ وهي مبتدأ؛ وجاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأنها تفيد الوعيد . والوعيد معنًى خاص، فزال به إجمال النكرة المطلقة؛ و{ الكتاب } بمعنى المكتوب؛ والمراد به التوراة؛ { بأيديهم }: كلمة مؤكدة لقوله تعالى: { يكتبون }؛ أو مبينة للواقع؛ لأنه لا كتابة إلا باليد غالباً؛ والمعنى: أنهم يكتبونه بأيديهم، فيتحققون أنه ليس الكتاب المنَزَّل؛ فهم يباشرون هذه الجناية العظيمة؛ { ثم يقولون } أي بعدما كتبوه بأيديهم، وعرفوا أنه من صُنْع أيديهم؛ { هذا من عند الله } أي نزل من عند الله؛ { ليشتروا به } أي ليأخذوا به؛ واللام للتعليل؛ فإذا دخلت اللام على الفعل المضارع تكون للتعليل . كما هي هنا؛ وتكون للعاقبة، مثل: {ليكون لهم عدوًّا وحزناً} [القصص: 8] ؛ وتكون زائدة، مثل: {يريدون ليطفئوا نور الله} [الصف: 8] أي يريدون أن يطفئوا؛ لأن الفعل "يريد" يتعدى بنفسه بدون حرف الجرّ؛ { ثمناً قليلاً } أي عوضاً قليلاً؛ وهذا العوض القليل هو الرئاسة، والجاه، والمال، وغير ذلك من أمور الدنيا، كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: 77] ؛ فمهما حصل في الدنيا من رئاسة، وجاه، ومال، وولد، فهو قليل بالنسبة للآخرة؛ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"(126) : الدنيا من أولها إلى آخرها برئاساتها، وأموالها، وبنيها، وقصورها، وكل ما فيها، وموضع السوط متر تقريباً؛ إذاً متاع الدنيا قليل..
قوله تعالى: { فويل لهم مما كتبت أيديهم }: هذا وعيد على فعلهم؛ { وويل لهم مما يكسبون }: هذا وعيد على كسبهم..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: الوعيد على الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله وهم كاذبون..
.2 ومنها: أنهم يفعلون ذلك من أجل الرئاسة، والمال، والجاه؛ لقوله تعالى: { ليشتروا به ثمناً قليلاً }؛ وقد ورد الوعيد على من طلب علماً يبتغى به وجه الله لينال عرضاً من الدنيا..
.3 ومنها: أن الدنيا كلها مهما بلغت فهي قليل، كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 77)
.4 ومنها: أن الجزاء بحسب العمل؛ لقوله تعالى: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم )
.5 ومنها: إثبات العلل، والأسباب؛ لقوله تعالى: { مما كتبت أيديهم }؛ فإن هذا بيان لعلة الوعيد؛ وهذه غير الفائدة السابقة؛ لأن الفائدة السابقة جزاؤهم بقدر ما كتبوا؛ وهذه بيان السبب..
.6 ومنها: أن عقوبة القول على الله بغير علم تشمل الفعل، وما ينتج عنه من كسب محرم؛ لقوله تعالى:
{ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }؛ فما نتج عن المحرم من الكسب فإنه يأثم به الإنسان؛ مثلاً: إنسان عمل عملاً محرماً . كالغش . فإنه آثم بالغش؛ وهذا الكسب الذي حصل به هو أيضاً آثم به..
القـرآن
)وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:81)(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:82)

التفسير:
.{ 80 } قوله تعالى: { وقالوا } أي اليهود { لن تمسنا النار } أي لن تصيبنا نار الآخرة { إلا أياماً معدودة } يعنون أنهم يبقون فيها أياماً معدودة، ثم يخلفهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون؛ فنحن نقول: إقراركم على أنفسكم بدخول النار مقبول؛ ودعواكم الخروج من النار دعوى لا بينة لها؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى متحدياً إياهم: { قل } . الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. { أتخذتم عند الله عهداً } أي أأخذتم عند الله عهداً أن لا تمسكم النار إلا أياماً معدودة، ثم يخلفكم فيها الرسول، والمؤمنون؟! والاستفهام هنا للإنكار؛ و "العهد" الميثاق، والالتزام؛ { فلن يخلف الله عهده } أي إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد..
قوله تعالى: { أم تقولون على الله ما لا تعلمون }؛ قيل: إن { أم } متصلة؛ وقيل: إنها منقطعة؛ والفرق بينهما من وجهين: الأول: أن المنقطعة تكون بمعنى "بل"؛ و الثاني: أن ما بعدها منقطع عما قبلها؛ وأما المتصلة فتكون بمعنى "أو"، وما بعدها معادل لما قبلها؛ مثال المتصلة: قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6] ؛ ومثال المنقطعة: قوله تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون} [الطور: 32] أي بل هم قوم طاغون؛ أما في هذه الآية التي نحن بصددها فيحتمل أنها منقطعة؛ وعلى هذا فيكون معناها: بل تقولون على الله ما لا تعلمون؛ ويحتمل أنها متصلة، فيكون معناها: هل أنتم اتخذتم عند الله عهداً فادعيتموه، أو أنكم تقولون على الله ما لا تعلمون؟! وعلى كلا الاحتمالين فهم يقولون على الله ما لا يعلمون؛ إذاً إذا لم يكن عندهم من الله عهد، وقد قالوا على الله ما لا يعلمون، فتكون دعواهم هذه باطلة..
.{ 81 } قوله تعالى مبيناً من الذي تمسه النار، ومن الذي لا تمسه: { بلى من كسب سيئة }: قال المفسرون: { بلى } هنا بمعنى "بل"؛ فهي للإضراب الانتقالي؛ ويحتمل أن تكون للإضراب الإبطالي . أي لإبطال قولهم: { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة }؛ و{ مَنْ } يحتمل أن تكون اسم شرط؛ وجوابه: { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي؛ وهي مبتدأ، وخبره: { فأولئك أصحاب النار }، وقرن بالفاء لمشابهة الاسم الموصول الاسم الشرط في العموم؛ والاحتمال الأول أولى؛ و "الكسب" معناها: حصول الشيء نتيجة لعمل؛ و{ سيئة } من ساء يسوء؛ والمراد الأعمال السيئة..
قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته }: "الإحاطة" في اللغة: الشمول؛ و{ أحاطت } أي صارت كالحائط عليه، وكالسور . أي اكتنفته من كل جانب؛ وفي قوله تعالى: { خطيئته } قراءتان: الإفراد، والجمع؛ والإفراد بمعنى الجمع؛ لأنه مفرد مضاف فيعم؛ لكن الجمع يفيد الإشارة إلى أنواع الخطايا..
وقوله تعالى: { سيئة }، و{ خطيئته }: قيل: بمعنى واحد، وأن السيئة امتدت حتى أحاطت به؛ وقيل: إن المراد بالسيئة: الكفر؛ والخطيئة: ما دونه؛ وهذا هو المعروف عند المفسرين..
قوله تعالى: { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }: المشار إليه ما سبق؛ و{ أصحاب } جمع صاحب . أي أهل النار؛ وسموا أصحاباً لها لملازمتهم إياها . والعياذ بالله؛ و{ خالدون } أي ماكثون؛ فالخلود بمعنى المكث، والدوام؛ ومنه قوله تعالى: {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود} [ق: 34] ..
.{ 82 } قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات }: مبتدأ؛ خبره: قوله تعالى: { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }؛ لما ذكر الله عزّ وجلّ مصير الكافرين ذكر بعده مصير المؤمنين ليكون العبد سائراً إلى الله سبحانه وتعالى بين الخوف والرجاء؛ وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه مثاني . أي تُثَنَّى فيه المعاني، والأحوال..
وقوله تعالى: { والذين آمنوا } أي صدقوا بما يجب الإيمان به مع القبول، والإذعان؛ فلا يكون الإيمان مجرد تصديق؛ بل لا بد من قبول للشيء، واعتراف به، ثم إذعان، وتسليم لما يقتضيه ذلك الإيمان.
وقوله تعالى: { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات؛ والعمل يصدق على القول، والفعل؛ وليس العمل مقابل القول؛ بل الذي يقابل القول: الفعل؛ وإلا فالقول، والفعل كلاهما عمل؛ لأن القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح..
قوله تعالى: { أولئك أصحاب الجنة } أي أهلها الملازمون لها؛ لأن الصحبة ملازمة؛ و{ الجنة }: الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين؛ وفيها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(127) ، كقوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} (السجدة: 17 ).
قوله تعالى: { هم فيها خالدون } سبق الكلام عليها..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيات: أن اليهود يقرون بالآخرة، وأن هناك ناراً، لقوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة }؛ لكن هذا الإقرار لا ينفعهم؛ لأنهم كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ وعلى هذا ليسوا بمؤمنين..
.2 ومنها: أنهم قالوا على الله ما لا يعلمون، إما كذباً، وإما جهلاً؛ والأول أقرب؛ لقوله تعالى: { أم تقولون على الله ما تعلمون..
.3 ومنها: حسن مجادلة القرآن؛ لأنه حصر هذه الدعوى في واحد من أمرين، وكلاهما منتفٍ: { أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون }؛ وهذا على القول بأن { أم } هنا متصلة؛ أما على القول بأنها منقطعة فإنه ليس فيها إلا إلزام واحد..
.4 ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لن يخلف وعده؛ وكونه لا يخلف الوعد يتضمن صفتين عظيمتين هما: الصدق، والقدرة، لأن إخلاف الوعد إما لكَذِب، وإما لعجز؛ فكون الله . جلَّ وعلا . لا يخلف الميعاد يقتضي كمال صدقه، وكمال قدرته..
.5 ومنها: أن من دأب اليهود القول على الله بلا علم؛ لقوله تعالى: { أم تقولون على الله ما لا تعلمون }؛ والقول على الله يتضمن القول عليه في أحكامه، وفي ذاته، وصفاته؛ من قال عليه ما لا يعلم بأنه حلَّل، أو حرَّم، أو أوجب، فقد قال على الله بلا علم؛ ومن أثبت له شيئاً من أسماء، أو صفات لم يثبته الله لنفسه فقد قال على الله بلا علم؛ ومن نفى شيئاً من أسمائه وصفاته فقد قال على الله بلا علم؛ ومن صرف شيئاً عن ظاهره من نصوص الكتاب والسنة بلا دليل فقد قال على الله بلا علم..
.6 ومن فوائد الآية: تحريم الإفتاء بلا علم؛ وعلى هذا يجب على المفتي أن يتقي الله عزّ وجلّ، وألا يتسرع في الإفتاء؛ لأن الأمر خطير..
.7 . ومنها: أن الثواب والعقاب لا يترتب على الأشخاص بحسب النسب، أو الانتماء؛ وإنما هو بحسب العمل..
.8 ومنها: أن من أحاطت به خطيئته فلم يكن له حسنة فإنه من أصحاب النار الذين لا يخرجون منها..
.9 ومنها: أن من كسب سيئة لكن لم تحط به الخطيئة فإنه ليس من أصحاب النار؛ لكن إن كان عليه سيئات فإنه يعذب بقدرها . ما لم يعف الله سبحانه وتعالى عنه..
.10 ومنها: إثبات النار، وأنها دار الكافرين
.11 ومنها: خلود أهل النار فيها؛ وهو خلود مؤبد لا يخفف عنهم فيه العذاب، وقد صرح الله عزّ وجلّ بتأبيد الخلود فيها في ثلاثة مواضع من القرآن؛ الأول: في سورة النساء في قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديدهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً} [النساء: 168، 169] ؛ الموضع الثاني: في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً} [الأحزاب: 64، 65] ؛ الموضع الثالث: في سورة الجن في قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [الجن: 23] ..
.12 ومن فوائد الآيات: أن أهل الجنة هم الذين قاموا بالإيمان، والعمل الصالح؛ ولا يكون العمل صالحاً إلا بأمرين: الإخلاص لله عزّ وجلّ، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك قول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(128). وهذا فُقِدَ فيه الإخلاص؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ"(129) . وهذا فُقِدَ فيه المتابعة؛ وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم "فأيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مِائة شرط(130)" ..
.13 ومن فوائد الآيات: أن الإيمان وحده لا يكفي لدخول الجنة؛ بل لا بد من عمل صالح..
.14 ومنها: أن العمل وحده لا يكفي حتى يكون صادراً عن إيمان؛ لقوله تعالى: { آمنوا وعملوا الصالحات ولذلك لم ينفع المنافقين عملهم؛ لفقد الإيمان في قلوبهم..
.15 ومنها: بلاغة القرآن، وحسن تعليمه؛ حيث إنه لما ذكر أصحاب النار ذكر أصحاب الجنة؛ وهذا من معنى قول الله تعالى: {الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} [ الزمر: 23] ؛ فإن من معاني المثاني أن تثنى فيه الأمور؛ فيذكر الترغيب والترهيب؛ والمؤمن والكافر؛ والضار والنافع؛ وما أشبه ذلك..
.16 ومنها: إثبات الجنة..
.17 ومنها: أن أصحاب الجنة مخلدون فيها؛ وتأبيد الخلود في الجنة صرح الله سبحانه وتعالى به في آيات عديدة..


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:41 AM   #69
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القـرآن
)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة:83)
التفسير:
.{ 83 } قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي اذكروا إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل؛ و "الميثاق" : العهد؛ وسمي "العهد" ميثاقاً؛ لأنه يوثق به المعاهد، كالحبل الذي توثق به الأيدي، والأرجل؛ لأنه يُلزمه؛ و{ إسرائيل } هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ وبنوه: ذريته من ذكور، وإناث، كما يقال: "بنو تميم" لذكورهم، وإناثهم؛ و "بنو إسرائيل" بنو عم للعرب؛ لأن العرب من بني إسماعيل؛ وهؤلاء من بني إسرائيل؛ وجدهم واحد . وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم والميثاق بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: { لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }؛ فالميثاق اشتمل على ثمانية أمور:.
الأول: أن لا يعبدوا إلا الله؛ لقوله تعالى: { لا تعبدون إلا الله }؛ و "العبادة" معناها: الذل، والخضوع؛ مأخوذة من قولهم طريق معبَّد . أي مذلَّل..
الثاني: الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله تعالى: { وبالوالدين إحساناً } أي أحسنوا بالوالدين إحساناً؛ وهو شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وجميع طرق الإحسان؛ لأن الله أطلق؛ فكل ما يسمى إحساناً فهو داخل في قوله تعالى: { وبالوالدين إحساناً }؛ والمراد بـ "الوالدين" الأب، والأم، والأباعد لهم حق؛ لكن ليسوا كحق الأب، والأم الأدنيين، ولهذا اختلف إرثهم، واختلف ما يجب لهم في بقية الحقوق..
الثالث: الإحسان إلى القرابة؛ لقوله تعالى: { وذي القربى }؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { بالوالدين }؛ والمعنى: وإحساناً بذي القربى؛ و{ ذي } بمعنى صاحب؛ و{ القربى } بمعنى القرابة؛ ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم؛ والقرابة من قِبَلِ الأب، لأن { القربى } جاءت بعد "الوالدين" أي القربى من قِبَل الأم، ومن قِبَل الأب..
الرابع: الإحسان إلى اليتامى؛ لقوله تعالى: { واليتامى }: جمع يتيم . وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكر، أو أنثى، وأوصى الله تعالى باليتامى؛ لأنه ليس لهم من يربيهم، أو يعولهم؛ إذ إن أباهم قد توفي؛ فهم محل للرأفة، والرحمة، والرعاية..
الخامس: الإحسان إلى المساكين؛ لقوله تعالى: { والمساكين }: جمع مسكين وهو الفقير الذي أسكنه الفقر؛ لأن الإنسان إذا اغتنى فإنه يطغى، ويزداد، ويرتفع، ويعلو؛ وإذا كان فقيراً فإنه بالعكس، وهنا يدخل الفقراء مع { المساكين }؛ لأن "الفقراء"، و"المساكين" من الأسماء التي إذا قرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت؛ فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ وإذا قيل: فقراء ومساكين . مثل آية الزكاة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60] . صار "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى؛ لما اجتمعت الآن افترقت: فـ"الفقير": من لا يجد شيئاً من الكفاية، أو يجد دون النصف؛ و"المسكين": من يجد نصف الكفاية دون كمالها..
السادس: أن يقولوا للناس قولاً حسناً؛ لقوله تعالى: { وقولوا للناس حسناً } بسكون السين، وفي قراءة: { حسَناً } بفتحها؛ والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن..
السابع: إقامة الصلاة؛ لقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أي ائتوا بها قائمة . أي قويمة ليس فيها نقص؛ وذلك بأن يأتوا بها بشروطها، وأركانها، وواجباتها؛ وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها؛ و{ الصلاة } تشمل الفريضة، والنافلة..
الثامن: إيتاء الزكاة؛ لقوله تعالى: { وآتوا الزكاة } أي أعطوها مستحقها؛ و "الزكاة" هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية..
قوله تعالى: { ثم توليتم إلا قليلاً منكم } فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ وفائدته: إدخال الموجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم . أعني التولي؛ و "التولي" ترك الشيء وراء الظهر؛ وهذا أبلغ من الإعراض؛ لأن الإعراض قد يكون بالقلب، أو بالبدن مع عدم استدبار..
قوله تعالى: { وأنتم معرضون } الجملة هنا حالية؛ أي توليتم في إعراض؛ وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه . فقد يتولى بالبدن، ولكن قلبه متعلق بما وراءه؛ ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان عظمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإذ أخذنا }؛ لأن الضمير هنا للتعظيم؛ وهو سبحانه وتعالى العظيم الذي لا أعظم منه..
.2 ومنها: أن التوحيد جاءت به الرسل جميعاً؛ لقوله تعالى: ( لا تعبدون إلا الله ).
.3 ومنها: أن العبادة خاصة بالله . تبارك وتعالى؛ فلا يعبد غيره؛ لقوله تعالى: { لا تعبدون إلا الله }؛ لأن هذا يفيد الحصر..
.4 ومنها: وجوب الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله تعالى: { وبالوالدين إحساناً }؛ وإنما أوجب ذلك؛ لأن نعمة الوالدين على ولدهما هي التي تلي نعمة الله عزّ وجلّ؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14] ؛ فهما سبب وجودك، وإمدادك، وإعدادك . وإن كان أصل ذلك من الله؛ فلولا الوالدان ما كنت شيئاً؛ والإحسان إلى الوالدين شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وغير ذلك من أنواع الإحسان؛ وضده أمران؛ أحدهما أن يسيء إليهما؛ والثاني: أن لا يحسن، ولا يسيء؛ وكلاهما تقصير في حق الوالدين مناف لبرهما؛ وفي الإساءة زيادة الاعتداء..
.5 ومن فوائد الآية: وجوب الإحسان إلى ذوي القربى . أي قرابة الإنسان . وهم من يجتمعون به بالأب الرابع، فما دون؛ ولكن يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت؛ فكل من كان أقرب فهو أولى بالإحسان؛ لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف؛ فمثلاً يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم؛ ويجب عليك من صلة الخال أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد الخال..
.6 ومنها: وجوب الإحسان إلى اليتامى؛ وهو يشمل الإحسان إليهم أنفسهم؛ والإحسان في أموالهم؛ لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الأنعام: 152] ..
.7 ومنها: وجوب الإحسان إلى المساكين؛ وذلك بإعطائهم ما يستحقون من الزكاة، ودفع الضرورة، وما أشبه ذلك..
.8 ومنها: وجوب القول الحسن؛ لقوله تعالى: { وقولوا للناس حسناً }؛ وضد القول الحسن قولان؛ قول سوء؛ وقول ليس بسوء، ولا حسن؛ أما قول السوء فإنه منهي عنه؛ وأما القول الذي ليس بسوء، ولا حسن فليس مأموراً به، ولا منهياً عنه؛ لكن تركه أفضل؛ ولهذا وصف الله عباد الرحمن بأنهم: {لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مرُّوا كراماً} [الفرقان: 72] ؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً؛ أو ليصمت"(131) ..
.9 ومنها: الأمر بإقامة الصلاة على وجه الوجوب فيما لا تصح الصلاة إلا به؛ وعلى وجه الاستحباب فيما تصح الصلاة بدونه وهو من كمالها..
.10 ومنها: أن الصلوات مفروضة على من كان قبلنا..
.11 ومنها: وجوب إيتاء الزكاة؛ لقوله تعالى: ( وآتوا الزكاة )
.12 ومنها: وجوب الزكاة على من كان قبلنا؛ ولكن لا يلزم أن يكونوا مساوين لنا في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا في مقدار الزكاة، ولا في أهلها الذين تدفع إليهم..
.13 ومنها: أن بني إسرائيل مع هذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم لم يقوموا به إلا القليل منهم..
.14 ومنها: أن تولي بني إسرائيل كان تولياً كبيراً، حيث كان تولياً بإعراض..
.15 ومنها: أن المتولي المعرض أشد من المتولي غير المعرض..
.16 ومنها: أن التولي قد يكون بإعراض، وقد يكون بغير إعراض؛ لأنه لو كان بإعراض مطلقاً لم يستقم قوله: (وأنتم معرضون )
القـرآن
)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86)
التفسير:
.{ 84 . 85 } قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم }: يذَكِّرهم الله سبحانه وتعالى بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ وبين الله تعالى الميثاق هنا بأمرين:.
الأول: قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم } أي لا تريقونها؛ و"السفك"، و"السفح" بمعنى واحد؛ والمراد بسفك الدم: القتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً"(132) أي يقتل نفساً بغير حق؛ و{ دماءكم } أي دماء بعضكم؛ لكن الأمة الواحدة كالجسد الواحد؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"(133) ، وقال: "ويجير عليهم أقصاهم(134)" ..
الأمر الثاني: قوله تعالى: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ المراد: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياركم؛ ولا شك أن الإخراج من الوطن شاق على النفوس؛ وربما يكون أشق من القتل..
قوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم بعد هذا الميثاق بقيتم عليه، وأقررتم به، وشهدتم عليه، ولم يكن الإقرار غائباً عنكم، أو منسياً لديكم؛ بل هو باق لا زائل؛ ثم بعد هذا الميثاق، والإقرار به، والشهادة عليه { أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }؛ و{ هؤلاء } منادى حذف منه حرف النداء . أي: يا هؤلاء؛ وليست خبر المبتدأ؛ و{ أنتم }: مبتدأ خبره جملة: { تقتلون }؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك، ورضوا به..
وقوله تعالى: { تقتلون أنفسكم } أي يقتل بعضكم بعضاً؛ { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } أي تجلونهم عن الديار؛ وهذا وقع بين طوائف اليهود قرب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..
قوله تعالى: { تظاهرون } بتخفيف الظاء؛ وفيها قراءة أخرى: { تظّاهرون } بتشديد الظاء؛ وأصله: تتظاهرون؛ ولكن أبدلت التاء ظاءً، ثم أدغمت بالظاء الأصلية؛ و{ تظاهرون } أي تعالَون؛ لأن الظهور معناه العلوّ، كما قال الله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } [الصف: 9] يعني ليعليه؛ وسمي العلوّ ظهوراً: من الظهر؛ لأن ظهر الحيوان أعلاه؛ وقيل: { تظاهرون } أي تعينون من يعتدي على بعضكم في عدوانه..
قوله تعالى: { بالإثم } أي بالمعصية؛ { والعدوان } أي الاعتداء على الغير بغير حق؛ فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً . إلا على النفس: فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً هذا آثم، ومعتد؛ والذي يخرجه من بلده آثم، ومعتد؛ ولهذا قال تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار، والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان..
قوله تعالى: { وإن يأتوكم } أي يجيئون إليكم؛ { أسارى }: جمع أسير؛ وتجمع أيضاً على أسرى، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} [الأنفال: 70] ؛ والأسير هو الذي استولى عليه عدوه؛ ولا يلزم أن يأسره بالحبل؛ لكن الغالب أنه يؤسر به؛ لئلا يهرب؛ و{ تفادوهم } أي تفكوهم من الأسر بفداء؛ وفي قراءة( تفدوهم )
قوله تعالى: { وهو محرم عليكم إخراجهم } يعني: تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم؛ فأنتم لم تقوموا بالإيمان بالكتاب كله؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }؛ والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ؛ والفاء في قوله تعالى: { أفتؤمنون } عاطفة؛ وسبق الكلام على مثل ذلك؛ أعني وقوع العاطف بعد همزة الاستفهام(135) ؛ ووجه كونهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض: أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛ وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف، والتماس الأعذار..
قوله تعالى: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة }؛ "ما" نافية؛ والجزاء، والمجازاة، والمعاقبة معناها واحد؛ أو متقارب؛ ومعنى "الجزاء" : إثابة العامل على عمله؛ والمعنى: ما ثوابكم على عملكم هذا إلا خزي في الحياة الدنيا؛ و "الخزي" معناه الذلّ..
قوله تعالى: { ويوم القيامة } أي يوم البعث؛ وسمي بذلك؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين؛ ولأنه يقوم فيه الأشهاد؛ ولأنه يقام فيه العدل؛ و{ يوم القيامة } ظرف متعلق بـ{ يردون } أي يرجعون من ذلّ الدنيا، وخزيها؛ { إلى أشد العذاب } أي أعظمه؛ و{ العذاب }: العقوبة..
قوله تعالى: { وما الله بغافل }: هذه صفة سلبية . أي نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه صفة الغفلة؛ وذلك لكمال علمه، ومراقبته؛ و{ عما تعملون }: بالتاء؛ وفيها قراءة: { يعملون }: بالياء..
.{ 86 } قوله تعالى: { أولئك }: المشار إليه هؤلاء اليهود الذين نقضوا العهد؛ { اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أي اختاروا الدنيا على الآخرة؛ فالآخرة عندهم مزهود فيها مبيعة؛ والدنيا مرغوب فيها مشتراة؛ ووصفت هذه الحياة بالدنيا لدنوها زمناً . لأنها سابقة على الآخرة؛ ولدنوها منْزلة . لأنها دون الآخرة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها(136)" ..
وقوله تعالى: { بالآخرة }: الباء هنا للبدل؛ وهي تدخل دائماً على الثمن، كقولهم: "اشتريت الثوب بدينار": فالدينار هو الثمن؛ ويقال: "اشتريت الدينار بثوب": فالثوب هو الثمن..
قوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب } أي لا يهوَّن عنهم لا زمناً، ولا شدة، ولا قوة؛ { ولا هم ينصرون } أي ولا أحد يمنع عنهم عذاب الله؛ لقوله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب * قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [غافر: 49، 50] ؛ فهم يائسون من الخروج؛ فلم يقولوا: "أخرجنا من النار"، ولم يقولوا: "يخفف عنا دائماً"؛ بل قالوا: {يخفف عنا يوماً من العذاب} : يتمنون أن العذاب يخفف عنهم يوماً واحداً من الأبدي السرمدي؛ ولكن ذلك لا يحصل لهم؛ فيقال لهم توبيخاً، وتقريعاً، وتنديماً: { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا }؛ ولا ينفعهم الدعاء، كما قال تعالى: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }، أي ضياع..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيات: أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ لقوله تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم )
.2 ومنها: تحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم..
.3 ومنها: أن الأمة كالنفس الواحدة؛ لقوله تعالى: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ).
.4 ومنها: الأسلوب البليغ في قوله تعالى: { لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ وذلك أن مثل هذا التعبير فيه الحث البليغ على اجتناب ما نُهي عنه، وكأن الذي اعتدى على غيره قد اعتدى على نفسه
.5 ومنها: أن بني إسرائيل قد أقروا على أنفسهم بهذا الميثاق، وشهد بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: { ثم أقررتم وأنتم تشهدون..
.6 ومنها: بيان تمرد بني إسرائيل؛ حيث إنهم نقضوا العهد الذي أخذه الله عليهم، فصار بعضهم يقتل بعضاً، ويخرج بعضهم بعضاً من ديارهم..
.7 ومنها: أن بعضهم يتعالى على بعض بالإثم، والعدوان..
.8 ومنها: تحريم التظاهر على الغير بغير حق؛ لقوله تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }؛ وأما إذا علا عليه بحق فإن هذا لا بأس به؛ فإن الله سبحانه وتعالى فضل العباد بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ، وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] ..
.9 ومنها: تناقض بني إسرائيل في دينهم، وقبولهم للشريعة؛ حيث إنه يقتل بعضهم بعضاً، ويخرج فريقاً من ديارهم؛ ثم إذ أتى بعضهم أسيراً فاداه . أي دفع فدية لفك أسره؛ لأنه واجب عليهم في شريعتهم أن يفدي بعضهم بعضاً؛ وهذا من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعضه؛ ولهذا قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }..
.10 ومنها: أن الكفر ببعض الشريعة كفر بجميعها؛ وجه ذلك أن الله توعد هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ ومثل ذلك إذا آمن ببعض الرسل دون بعض فإنه كفر بالجميع؛ ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين } [الشعراء: 105] . ونوح هو أول الرسل لم يسبقه رسول؛ ومع ذلك جعل الله المكذبين له مكذبين لجميع الرسل؛ ولقوله تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} [النساء: 150، 151] ..
.11 ومن فوائد الآيات: مضاعفة العقوبة على بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب )
.12 ومنها: إثبات يوم القيامة؛ وهو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين مبعوثين من قبورهم..
.13 ومنها: تهديد الذين نقضوا العهد؛ لقوله تعالى: ( وما الله بغافل عما تعملون )
.14 ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لخلقه..
.15 ومنها: إثبات أن صفات الله تعالى ثبوتية، ومنفية؛ لكن يجب أن نعلم أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى؛ وإنما النفي الواقع في صفاته لبيان كمال ضد ذلك المنفي؛ ففي قوله تبارك وتعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] إثبات كمال العدل مع نفي الظلم عنه؛ وفي قوله تعالى: {وما مسَّنا من لغوب} [ق: 38] إثبات كمال القوة مع نفي اللغوب عنه؛ وعلى هذا فقس؛ فالضابط في الصفات التي نفاها الله تعالى عن نفسه أنها تدل على نفي تلك الصفة، وعلى ثبوت كمال ضدها..
.16 ومن فوائد الآيات: توبيخ من اختار الدنيا على الآخرة؛ وهو مع كونه ضلالاً في الدين سفه في العقل؛ إذ إن الدنيا متاع قليل، ثم يزول؛ والآخرة خير، وأبقى..
.17 ومنها: أن هؤلاء القوم خالدون في العذاب أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: { فلا يخفف عنهم العذاب }..
.18ومنها: أن المجرم لا يجد ناصراً له يمنعه من عذاب الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ولا هم ينصرون }..
مسألة :-
هذا الذي قصه الله تعالى علينا من أخبار بني إسرائيل مضمونه التحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه ولكن مع الأسف أن بعض هذه الأمة وقعوا في جنس ما وقع فيه بنو إسرائيل؛ وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتركبن سنن من كان قبلكم(137)" ..



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 04:42 AM   #70
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue



القـرآن
)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:88)
التفسير:
.{ 87 . 88 } قوله تعالى: { ولقد }: اللام موطئة للقسم؛ و "قد" للتحقيق؛ وعليه فتكون هذه الجملة مؤكّدة بثلاثة مؤكّدات . وهي: القسم المقدَّر، واللام الموطئة للقسم، و "قد" ؛ و{ آتينا } أي أعطينا؛ و{ موسى } هو ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل؛ و{ الكتاب }: المراد به هنا التوراة..
قوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل } أي أتبعنا من بعده بالرسل؛ لأن التابع يأتي في قفا المتبوع..
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم } أي أعطيناه { البينات }: صفة لموصوف محذوف؛ والتقدير: الآية البينات . أي الظاهرات في الدلالة على صدقه، وصحة رسالته؛ وهذه الآية البينات تشمل الآيات الشرعية، كالشريعة التي جاء بها؛ والآيات القدرية الكونية، كإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله..
قوله تعالى: { وأيدناه } أي قويناه، كقوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14] أي قويناهم عليهم؛ وهو معروف اشتقاقه؛ لأنه من "الأيد" بمعنى القوة، كما قال الله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } [الذاريات: 47] أي بقوة..
قوله تعالى: { بروح القدس } من باب إضافة الموصوف إلى صفته . أي بالروح المقدس؛ و"القُدُس"، و"القُدْس" بمعنى الطاهر؛ واختلف المفسرون في المراد بـ "روح القدس":.
القول الأول : أن المراد روح عيسى؛ لأنها روح قدسية طاهرة؛ فيكون معنى: {أيدناه بروح القدس } أي أيدناه بروح طيبة طاهرة تريد الخير، ولا تريد الشر..
والقول الثاني : أن المراد بـ "روح القدس" : الإنجيل؛ لأن الإنجيل وحي؛ والوحي يسمى روحاً، كما قال الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ..
و القول الثالث: أن المراد بـ "روح القدس" جبريل . عليه الصلاة والسلام . كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] : وهو جبريل؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت وهو يهجو المشركين: "اللهم أيده بروح القدس"(138) أي جبريل؛ وهذا أصح الأقوال . وهو أن المراد بـ "روح القدس" : جبريل . عليه الصلاة والسلام . يكون قريناً له يؤيده، ويقويه، ويلقنه الحجة على أعدائه؛ وهذا الذي رجحناه هو الذي رجحه ابن جرير، وابن كثير . أن المراد بـ "روح القدس" : جبريل عليه الصلاة والسلام..
قوله تعالى: { أفكلما }: الهمزة للاستفهام الإنكاري، والتوبيخ؛ والفاء عاطفة؛ و "كلما" أداة شرط تفيد التكرار؛ ولا بد فيها من شرط، وجواب؛ والشرط هنا: قوله تعالى: { جاءكم }؛ والجواب: { استكبرتم }..
وقوله تعالى: { أفكلما جاءكم رسول } أي من الله؛ { بما } أي بشرع؛ { لا تهوى أنفسكم } أي لا تريد؛ { استكبرتم } أي سلكتم طريق الكبرياء، والعلوّ على ما جاءت به الرسل؛ { ففريقاً } أي طائفة؛ ونصب على أنه مفعول مقدم لـ{ كذبتم }؛ { وفريقاً تقتلون } أي وطائفة أخرى تقتلونهم؛ وقدم المفعول على عامله؛ لإفادة الحصر مع مراعاة رؤوس الآي؛ والحصر هنا في أحد شيئين لا ثالث لهما: إما التكذيب؛ وإما القتل . يعني مع التكذيب..
وهنا قال تعالى: { كذبتم } . فعل ماضٍ؛ وقال تعالى: { تقتلون } . فعل مضارع؛ فأما كون الأول فعلاً ماضياً فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه وقع منهم التكذيب؛ وأما الإتيان بفعل مضارع بالنسبة للقتل فهو أولاً مراعاة لفواصل الآية؛ لأنه لو قال: "فريقاً قتلتم" لم تتناسب مع التي قبلها، والتي بعدها؛ ثم إن بعض العلماء أبدى فيها نكتة: وهي أن هؤلاء اليهود استمر قتلهم الرسل حتى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوه له في خيبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما زال يتأثر منه حتى إنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني"(139) ؛ قال الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود تسببوا في قتله؛ وهذا ليس ببعيد أن يكون هذا من أسرار التعبير بالمضارع في القتل؛ وإن كان قد يَرِدُ عليه أن التكذيب استمر حتى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يقل: "فريقاً تكذبون وفريقاً تقتلون"؟! والجواب عن هذا أن القتل أشد من التكذيب؛ فعبر عنه بالمضارع المستمر إلى آخر الرسل..
فإن قيل: كيف يصح قول الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً؛ لأن اليهود كانوا سبباً في قتله، وقد قال الله تعالى: { والله يعصمك من الناس }؟
فالجواب: المراد بقوله تعالى: { يعصمك من الناس }: حال التبليغ؛ أي بلغ وأنت في حال تبليغك معصوم، ولهذا لم يعتد عليه أحد أبداً في حال تبليغه، فقتله..
قوله تعالى: { وقالوا } أي بنو إسرائيل معتذرين عن ردهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ { قلوبنا غلف } جمع أغلف؛ و"الأغلف" هو الذي عليه غلاف يمنع من وصول الحق إليه . يعني مغلفة لا تصل إليها دعوة الرسل؛ وهذه حجة باطلة؛ ولهذا قال تعالى: { بل لعنهم الله بكفرهم }؛ و{ بل } للإضراب الإبطالي . أي أن الله تعالى أبطل حجتهم هذه، وبيَّن أنه تعالى: { لعنهم } . أي طردهم، وأبعدهم عن رحمته؛ { بكفرهم } أي بسبب كفرهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان؛ و "كُفْر" مصدر مضاف إلى فاعله؛ ولم يذكر مفعوله ليعم الكفرَ بكل ما يجب الإيمان به..
قوله تعالى: { فقليلاً ما يؤمنون } أي قليلاً إيمانهم؛ وعلى هذا تكون { ما } إما مصدرية؛ وإما زائدة لتوكيد القلة؛ وهل المراد بالقلة العدم، أو هي على ظاهرها؟ المعنى الأول أقرب؛ لأن الظاهر من حالهم عدم الإيمان بالكلية؛ ولا يمتنع أن يراد بالقلة العدم إذا دلت عليه القرائن الحالية، أو اللفظية..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: إثبات رسالة موسى؛ لقوله تعالى: ( ولقد آتينا موسى الكتاب )
.2 ومنها: تأكيد الخبر ذي الشأن . وإن لم ينكر المخاطب؛ لقوله تعالى: { ولقد آتينا }؛ فإنها مؤكدة بثلاث مؤكدات مع أنه لم يخاطب بها من ينكر؛ وتأكيد الكلام يكون في ثلاثة مواضع:.
أولاً: إذا خوطب به المنكِر، وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد وجوباً..
ثانياً: إذا خوطب به المتردد؛ وقد قال علماء البلاغة: إنه في هذه الحال يؤكد استحساناً..
ثالثاً: إذا كان الخبر ذا أهمية بالغة فإنه يحسن توكيده . وإن خوطب به من لم ينكر، أو يتردد..
3 . ومن فوائد الآيتين: أن من بعد موسى من الرسل من بني إسرائيل تبع له؛ لقوله تعالى: { وقفينا من بعده بالرسل }؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار} (المائدة: 44)
.4 ومنها: ثبوت رسالة عيسى؛ لقوله تعالى: ( وآتينا عيسى بن مريم البينات )
.5 ومنها: أن من ليس له أب فإنه ينسب إلى أمه؛ لأن عيسى عليه السلام نسب إلى أمه..
وبهذا نعرف أن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن أم من ليس له أب شرعاً هي عصبته؛ فإن عدمت فعصبتها . خلافاً لمن قال: إن أمه ليس لها تعصيب؛ ويظهر أثر ذلك بالمثال: فلو مات من ليس له أب عن أمه، وخاله: فلأمه الثلث والباقي لخاله . على قول من يقول: إن الأم لا تعصيب لها؛ أما على القول الراجح: فلأمه الثلث فرضاً، والباقي تعصيباً..
.6 ومن فوائد الآيتين: أن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم أعطاه الله سبحانه وتعالى آيات كونية، وشرعية؛ مثال الشرعية: الإنجيل؛ ومثال الكونية: إحياء الموتى، وإخراجهم من القبور، وإبراء الأكمه، والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً يطير بإذن الله؛ وكذلك أيضاً يخبرهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم؛ قال العلماء: إنما أعطي هذه الآية الكونية؛ لأن الطب في عهده ارتقى إلى درجة عالية، فأتاهم بآيات لا يقدر الأطباء على مثلها؛ كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ترقى في عهده الكلام إلى منْزلة عالية في البلاغة، والفصاحة؛ فآتاه الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم الذي عجزوا أن يأتوا بمثله..
.7 ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أيد عيسى بجبرائيل؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس.
.8 ومنها: أن الملائكة من جملة تسخيرهم للخلق أنهم يؤيدون من أمَرَهم الله بتأييده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "اللهم أيده بروح القدس(140)" ..
.9 ومنها: بيان عتوّ بني إسرائيل، وأنهم لا يريدون الحق؛ لقوله تعالى: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )
.10 ومنها: أن بني إسرائيل يبادرون بالاستكبار عند مجيء الرسل إليهم، ولا يتأنون؛ لقوله تعالى: { أفكلما جاءكم }، ثم قال تعالى: { استكبرتم }؛ لأن مقتضى ترتب الجزاء على الشرط أن يكون الجزاء عقيباً للشرط: كلما وجد الشرط وجد الجزاء فوراً..
.11 ومنها: توبيخ ولوم بني إسرائيل، وبيان مناهجهم بالنسبة للشرائع، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع؛ ففي الشرائع: لا يقبلون إلا ما وافق أهواءهم، وبالنسبة لمن جاء بالشرائع بما لا تهوى أنفسهم: انقسموا إلى قسمين: فريقاً يكذبون؛ وفريقاً يقتلون مع التكذيب..
.12 ومنها: أن من استكبر عن الحق إذا كان لا يوافق هواه من هذه الأمة فهو شبيه ببني إسرائيل؛ فإذا استكبر عن الحق . سواء تحيل على ذلك بالتحريف؛ أو أقر بأن هذا الحق، ولكنه استكبر عنه . فإنه مشابه ببني إسرائيل..
والخارجون عن الحق ينقسمون إلى قسمين: قسم يقرُّ به، ويعترف بأنه عاصٍ؛ وهذا أمره واضح، وسبيله بين، وقسم آخر يستكبر عن الحق، ويحاول أن يحرف النصوص إلى هواه؛ وهذا الأخير أشد على الإسلام من الأول؛ لأنه يتظاهر بالاتباع وهو ليس من أهله..
.13 ومن فوائد الآيتين: أن بعض الناس يستكبر عن الحق؛ لأنه مخالف لهواه..
.14 ومنها: أن بني إسرائيل انقسموا في الرسل الذين جاءوا بما لا تهوى أنفسهم إلى قسمين: قسم كذبوهم؛ وقسم آخر قتلوهم مع التكذيب..
.15ومنها: أن هؤلاء الذين لم يقبلوا الحق احتجوا بما ليس بحجة؛ فقالوا: قلوبنا غلف..
.16 ومنها: أن من صنع مثل صنيعهم فهو شبيه بهم؛ يوجد أناس نسمع عنهم أنهم إذا نُصِحوا، ودُعوا إلى الحق قالوا: "ما هدانا الله"؛ وهؤلاء مشابهون لليهود الذين قالوا: ( قلوبنا غلف )
.17 ومنها: أن القلوب بفطرتها ليست غلفاء؛ لقوله تعالى: { بل لعنهم الله }؛ وهذا الإضراب للإبطال . يعني ليست القلوب غَلفاء لا تقبل الحق، لكن هناك شيء آخر هو الذي منع من وصل الحق؛ وهو لَعْن الله إياهم بسبب كفرهم..
.18 ومنها: أن الفطرة من حيث هي فطرة تقبل الحق، ولكن يوجد لها موانع..
.19 منها: بيان أن الأسباب مهما قويت إذا غلب عليها المانع لم تؤثر شيئاً؛ فالقلوب وإن كانت مفطورة على الدين القيم لكن إذا وجد موانع لم تتمكن من الهدى؛ وقد قيل: إن الأمور لا تتم إلا بوجود أسبابها، وانتفاء موانعها..
.20 ومنها: إثبات الأسباب، وأن لها تأثيراً في مسبباتها بإذن الله؛ لقوله تعالى: ( بل لعنهم الله بكفرهم ).
.21 ومنها: أن الإيمان في هؤلاء اليهود قليل، أو معدوم؛ لقوله تعالى: ( فقليلاً ما يؤمنون )
القـرآن
)وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89)
)بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة:90)
التفسير:
.{89 } قوله تعالى: { ولما جاءهم كتاب }: هو القرآن؛ ونكَّره هنا للتعظيم؛ وأكد تعظيمه بقوله تعالى:
{ من عند الله }، وأضافه الله تعالى إليه؛ لأنه كلامه . كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله..
قوله تعالى: { مصدق لما معهم }: له معنيان:.
الأول: أنه حكم بصدقها، كما قال في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] ؛ فهو يقول عن التوراة: إنه حق، وعن الإنجيل: إنه حق؛ وعن الزبور: إنه حق؛ فهو يصدقها، كما لو أخبرك إنسان بخبر، فقلت: "صدقت" تكون مصدقاً له..
المعنى الثاني: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت الكتب السابقة . التوراة، والإنجيل؛ فعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ( قال: {إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] ؛ فجاء هذا الكتاب مصدقاً لهذه البشارة..
وقوله تعالى: { لما معهم } أي من التوراة، والإنجيل؛ وهذا واضح أن التوراة أخبرت بالرسول صلى الله عليه وسلم إما باسمه، أو بوصفه الذي لا ينطبق على غيره..
قوله تعالى: { وكانوا من قبل } أي من قبل أن يجيئهم {يستفتحون } أي يستنصرون، ويقولون سيكون لنا الفتح، والنصر { على الذين كفروا } أي من المشركين الذين هم الأوس، والخزرج؛ لأنهم كانوا على الكفر، ولم يكونوا من أهل الكتاب . كما هو معروف؛ فكانوا يقولون: إنه سيبعث نبي، وسنتبعه، وسننتصر عليكم؛ لكن لما جاءهم الشيء الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كفروا به؛ { فلعنة الله }: اللعنة: هي الطرد، والإبعاد عن رحمة الله؛ { على الكافرين } أي حاقة عليهم؛ وهو مظهر في موضع الإضمار؛ إذ كان مقتضى السياق: "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله عليهم"؛ والإظهار في موضع الإضمار له فوائد؛ منها: مراعاة الفواصل كما هنا؛ ومنها الحكم على موضع الضمير بما يقتضيه هذا الوصف؛ ومنها الإشعار بالتعليل؛ ومنها إرادة التعميم..
.{ 90 } قوله تعالى: { بئسما اشتروا به أنفسهم }: "بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم؛ يقابلها "نِعْم": فهي فعل ماضٍ لإنشاء المدح؛ و"بئس"، و"نعْم" اسمان جامدان لا يتصرفان . أي لا يتحولان عن صيغة الماضي؛ و "ما" اسم موصول بمعنى الذي . أي بئس الذي اشتروا به أنفسهم؛ أو إنها نكرة موصوفة، والتقدير: "بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم"، و{ اشتروا } فسرها أكثرهم بمعنى باعوا؛ وهو خلاف المشهور؛ لأن معنى "اشترى الشيء": اختاره؛ والمختار للشيء لا يكون بائعاً له؛ والصحيح أنها على بابها؛ ووجهه أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر كانوا راغبين فيه، فكانوا مشترين له..
قوله تعالى: { أن يكفروا }: { أن } هنا مصدرية؛ والفعل بعدها مؤول بمصدر، والتقدير: كفرُهم؛ وهو المخصوص بالذم؛ وإعرابه مبتدأ مؤخر خبره الجملة قبله؛ { بما أنزل الله }: "ما" هذه اسم موصول بمعنى الذي؛ والمراد به: القرآن؛ لأنه تعالى قال في الأول: { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم}؛ و{ بغياً } مفعول لأجله عامله: قوله تعالى: { يكفروا }؛ و "البغي" فسره كثير من العلماء بالحسد؛ والظاهر أنه أخص من الحسد؛ لأنه بمعنى العدوان؛ لأن الباغي هو العادي، كما قيل: على الباغي تدور الدوائر؛ وقيل: البغي: مرتعُ مبتغيه وخيم؛ فالبغي ليس مجرد الحسد فقط؛ نعَم، قد يكون ناتجاً عن الحسد؛ والذين فسَّروه بالحسد فسَّروه بسببه..
قوله تعالى: { أن ينزل الله من فضله }: "الفضل" في اللغة: زيادة العطاء؛ والمراد بـ "الفضل" هنا الوحي، أو القرآن، كما قاله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: 58).
قوله تعالى: { على مَن يشاء من عباده }: { مَنْ } اسم موصول؛ والمراد: النبي صلى الله عليه وسلم لأن القرآن في الحقيقة نزل على النبي صلى الله عليه وسلم للناس، كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1] ؛ و{ يشاء } أي يريد بالإرادة الكونية؛ والمراد بـ{ عباده } هنا الرسل..
قوله تعالى: { فباءوا } أي رجعوا؛ { بغضب }: الباء للمصاحبة . يعني رجعوا مصطحبين لغضب من الله سبحانه وتعالى؛ ونكَّره للتعظيم؛ ولهذا قال بعض الناس: إن المراد بـ "الغضب" : غضب الله سبحانه وتعالى، وغيره . حتى المؤمنين من عباده يغضبون من فعل هؤلاء، وتصرفهم..
قوله تعالى: { على غضب } . كقوله تعالى: {ظلمات بعضها فوق بعض} [النور: 40] . يعني غضباً فوق غضب؛ فما هو الغضب الذي باءوا به؟ وما هو الغضب الذي كان قبله؟
الجواب: الغضب الذي باءوا به أنهم كفروا بما عرفوا، كما قال تعالى: { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }؛ والغضب السابق أنهم استكبروا عن الحق إذا كان لا تهواه أنفسهم، كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} [البقرة: 87] ؛ والغضب الثالث: قتلهم الأنبياء، أو تكذيبهم؛ فهذه ثلاثة أنواع من أسباب الغضب؛ وقد يكون أيضاً هناك أنواع أخرى..
قوله تعالى: { وللكافرين عذاب مهين }: هذا إظهار في موضع الإضمار فيما يظهر؛ لأن ظاهر السياق أن يكون بلفظ الضمير . أي ولهم عذاب مهين؛ والإظهار في موضع الإضمار له فوائد سبق بيانها قريباً..
وقوله تعالى: { عذاب } أي عقوبة؛ و{ مهين } أي ذو إهانة، وإذلال؛ ولو لم يكن من إذلالهم . حين يقولون: { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } [المؤمنون: 107] . إلا قول الله عزّ وجلّ لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] لكفى..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: أن القرآن من عند الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( كتاب من عند الله )
.2 ومنها: أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى تكلم به حقيقة؛ لقوله تعالى: { كتاب من عند الله }؛ ومعلوم أن الكلام ليس جسماً يقوم بنفسه حتى نقول: إنه مخلوق..
3 . ومنها: التنويه بفضل القرآن؛ لقوله تعالى: { مصدق لما معهم }، ولقوله تعالى: ( من عند الله )
.4 ومنها: أن اليهود كانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث، وتكون له الغلبة؛ لقوله تعالى:
{ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } يعني يستنصرون . أي يطلبون النصر؛ أو يَعِدون به؛ فقبل نزول القرآن، وقبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون للعرب: إنه سيبعث نبي، وينْزل عليه كتاب، وننتصر به عليكم، ولما جاءهم الرسول الذي كانوا يستفتحون به كفروا به..
.5ومنها: أن اليهود لم يخضعوا للحق؛ حتى الذي يقرون به لم يخضعوا له؛ لأنهم كفروا به؛ فيدل على عتوهم، وعنادهم..
.6 . ومنها: أن الكافر مستحق للعنة الله، وواجبة عليه؛ لقوله تعالى: ( فلعنة الله على الكافرين )
.7 . استدل بعض العلماء بهذه الآية على جواز لعن الكافر المعين؛ ولكن لا دليل فيها؛ لأن اللعن الوارد في الآية على سبيل العموم؛ ثم هو خبر من الله عزّ وجلّ، ولا يلزم منه جواز الدعاء به؛ ويدل على منع لعن المعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم العن فلاناً، وفلاناً"(141) . لأئمة الكفر، فنهاه الله عن ذلك؛ ولأن الكافر المعين قد يهديه الله للإسلام إن كان حياً؛ وإن كان ميتاً فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا"(142) ..
.8 ومن فوائد الآيتين: أن كفر بني إسرائيل ما هو إلا بغي، وحسد؛ لقوله تعالى: ( بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده)
.9ومنها: أن من رد الحق من هذه الأمة لأن فلاناً الذي يرى أنه أقل منه هو الذي جاء به؛ فقد شابه اليهود
.10 ومنها: أنه يجب على الإنسان أن يعرف الحق بالحق لا بالرجال؛ فما دام أن هذا الذي قيل حق فاتْبَعْه من أيٍّ كان مصدره؛ فاقبل الحق للحق؛ لا لأنه جاء به فلان، وفلان..
.11 ومنها: أن العلم من أعظم فضل الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { أن ينَزِّل الله من فضله على من يشاء }؛ ولا شك أن العلم أفضل من المال؛ وإذا أردت أن تعرف الفرق بين فضل العلم، وفضل المال فانظر إلى العلماء في زمن الخلفاء السابقين؛ الخلفاء السابقون قَلّ ذكرهم؛ والعلماء في وقتهم بقي ذكرهم: هم يُدَرِّسون الناس وهم في قبورهم؛ وأولئك الخلفاء نُسوا؛ اللهم إلا من كان خليفة له مآثر موجودة، أو محمودة؛ فدل هذا على أن فضل العلم أعظم من فضل المال..
.12 ومن فوائد الآيتين: إثبات مشيئة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { على من يشاء }؛ وهي عامة فيما يحبه الله، وما لا يحب؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ وكل شيء عُلِّق بالمشيئة فهو مقرون بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] ؛ فليست أفعال الله وأحكامه لمجرد المشيئة؛ بل هي لحكمة بالغة اقتضت المشيئة..
.13 ومن فوائد الآيتين: أن هذا الفضل الذي نزله الله لا يجعل المفضَّل به رباً يُعْبد؛ بل هو من العباد . حتى ولو تميز بالفضل؛ لقوله تعالى: (على من يشاء من عباده ).
وهذه الفائدة لها فروع نوضحها، فنقول: إن من آتاه الله فضلاً من العلم والنبوة لم يخرج به عن أن يكون عبداً؛ إذاً لا يرتقي إلى منْزلة الربوبية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله؛ فلا نقول لمن نزل عليه الوحي: إنه يرتفع حتى يكون رباً يملك النفع، والضرر، ويعلم الغيب..
ويتفرع عنها أن من آتاه الله من فضله من العلم، وغيره ينبغي أن يكون أعبد لله من غيره؛ لأن الله تعالى أعطاه من فضله؛ فكان حقه عليه أعظم من حقه على غيره؛ فكلما عظم الإحسان من الله عزّ وجلّ استوجب الشكر أكثر؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل حتى تتورم قدماه؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً(143)" ..
ويتفرع عنها فرع ثالث: أن بعض الناس اغتر بما آتاه الله من العلم، فيتعالى في نفسه، ويتعاظم حتى إنه ربما لا يقبل الحق؛ فحُرِم فضل العلم في الحقيقة..
.14من فوائد الآيتين: أن العقوبات تتراكم بحسب الذنوب جزاءً وفاقاً؛ لقوله تعالى: ( فباءوا بغضب على غضب).
15 . ومنها: أن المستكبر يعاقب بنقيض حاله؛ لقوله تعالى: { عذاب مهين } بعد أن ترفعوا؛ فعوقبوا بما يليق بذنوبهم؛ وعلى هذا جرت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه؛ قال الله تعالى: {فكلًّا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ، وقال تعالى: {جزءًا وفاقاً} (النبأ: 26 ).
.16 ومنها: أن الإظهار في موضع الإضمار من أساليب البلاغة، وفيه من الفوائد ما سبق ذكره قريباً..
.17 ومنها: إثبات الغضب من الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: { فباءوا بغضب على غضب }؛ والغضب من صفات الله الفعلية المتعلقة بمشيئته؛ وهكذا كل صفة من صفات الله تكون على سبب..



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سورة البقره كامله مكتوبه لناالله دراسات وأبحاث علم الرُقى والتمائم . الإدارة العلمية والبحوث Studies and science research spells and 8 15 Jun 2012 01:59 PM
حلمي بعد قراءة سورة البقره انا الورد ‎تعطير الأنام في تأويل الرؤى والأحلام - تفسير ابن الورد الحسني 1 12 Dec 2010 08:41 PM
عاجل وضروري (اقرأ سورة البقره) ام منار ‎تعطير الأنام في تأويل الرؤى والأحلام - تفسير ابن الورد الحسني 1 25 Jul 2007 02:39 PM
فضل سورة البقره مع شرح للايتان (الاولى والثانيه) ابرهيم الرفاعى منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 0 21 Mar 2007 05:40 PM

 
مايُكتب على صفحات المركز يُعبّر عن رأى الكاتب والمسؤولية تقع على عاتقه


علوم الجان - الجن - عالم الملائكة - ابحاث عالم الجن وخفاياه -غرائب الجن والإنس والمخلوقات - فيديو جن - صور جن - أخبار جن - منازل الجن - بيوت الجن- English Forum
السحر و الكهانة والعرافة - English Magic Forum - الحسد والعين والغبطة - علم الرقى والتمائم - الاستشارات العلاجية - تفسير الرؤى والاحلام - الطب البديل والأعشاب - علم الحجامة

الساعة الآن 08:56 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي